نظريات الاتصال والاعلام في البيئة الرقمية

مثلما يكون الإنسان ابن بيئته، تنشأ العلوم والنظريات الإنسانية والاجتماعية في بيئاتها الخاصة بها، فهي تتبلور في سياقات مكانية تتوافر فيها التربة الخصبة التي تؤهّلها لأن تكون حاضنتها، وتتحدّد معالمها في سياقات زمانية تتوافر فيها عوامل تشكّل أطرها الفكرية وعدّتها المفاهيمية. وتلك السياقات الزمكانية بخصائصها المذكورة آنفا، هي التي تخلق العوامل الموضوعية والتراكم المعرفي اللازمين لصياغة مقاربات علمية مبتكرة، تؤسّس إما لأطر نظرية جديدة، أو لمنظورات تفسيرية مختلفة، أو لمفاهيم ونماذج تفسيرية مستحدثة. ونظريات علوم الإعلام والاتصال لا تشكّل استثناء لهذه القاعدة، فقد نشأ الشكل المعاصر منها وترعرع في سياق مكاني ارتبط أساسا بالولايات المتحدة الأمريكية، بما عرفته منذ العقد الثاني من القرن العشرين من تطور للصناعة الإعلامية، بدء من مرحلة تجلّياتها الأولى وصولا إلى مرحلة الذروة التي بلغتها بنهاية ثمانينات القرن الماضي. كما نشأت في سياق زماني اقترن بالنهضة الاقتصادية التي عرفتها الولايات المتحدة وعديد البلدان الغربية في تلك الفترة من جهة، ثم بالأزمات التي عرفها القطاع الاقتصادي في الولايات المتحدة وعموم الدول الغربية خلال الفترة الممتدة من العقد الثاني إلى العقد الثالث من القرن العشرين من جهة أخرى. كما ارتبط السياق الزمكاني لنشأة وتطور أمهات نظريات علوم الإعلام والاتصال بفترة النصف الأول من القرن العشرين وبما عرفه العالم الغربي تحديدا من أزمتين كبيرتين، تمثلتا في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، مع ما خلّفتهما من دمار اقتصادي وعمراني كبيرين، تلتهما منذ منتصف العقد الخامس من ذلك القرن حرب باردة دامت لقرابة الخمسين سنة، وهي كلها أزمات وحروب نتجت عنها تداعيات سياسية واجتماعية كان لها آثار كبيرة في عموم مجتمعات البلدان الغربية، ما فرض حتمية التعامل معها إعلاميا، لفهمها أولا، ثم لإيجاد الصيغ الاتصالية المثلى لمعالجتها، ثانيا. وقد نتج عن ذلك السياق الزمكاني بروز إرهاصات فكرية تمخّض عنها عديد التيارات الفكرية والمدارس الفلسفية التي نشأت منها مختلف التوجهات المعرفية والأطر الفلسفية والفكرية، التي سمحت بدورها – خاصة في المجتمعات الأوروبية – بإثراء الاجتهادات الوضعية الأمريكية بمقاربات نظرية أخرى، إما من خلال نقدها، أو من خلال طرح أطر تحليلية بديلة لها.