مقدمة
لماذا سكان البلدان الغنية كالولايات المتحدة، ألمانيا و اليابان أكثر ثراء اليوم مقارنة بآبائهم و أجدادهم قبل مائة أو ألف عام مضى؟ و لماذا سكان فرنسا و هولندا اليوم أكثر ثراء من أولئك الذين يعيشون في هايتي و كينيا ؟ تمثل هذه الأسئلة جوهر مسألة “النمو الاقتصادي “.
لن نبالغ إذا قلنا أن النمو الاقتصادي ربما هو أهم موضوع في علم الاقتصاد، و لا عجب أن عبارات من أمثال ” الكأس المقدسة للنمو Holy Grail ” أو ” أكسير النمو Elixir of growth “استخدمت مرات عديدة في الأدبيات لإظهار أهمية النمو الاقتصادي ليس كمجال شيق للدراسة و البحث فقط بل لأنه يؤثر على رفاهيتنا وحياتنا ومصير ملايين من البشر. حقيقة لم يبالغ Robert Lucas – الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1995–حينما قال” بمجرد أن يبدأ المرء في التفكير في النمو الاقتصادي فمن الصعب التفكير في أي شيء آخر،لأن عواقبه على رفاهية الإنسان هي ببساطة جد مذهلة”… نعم نمو الناتج الحقيقي شرط ضروري لنمو الدخل الحقيقي و بدون هذا النمو لا يمكن بلوغ مستويات دخل و معيشة أعلى. لاحظ أن أكثر من عشر أضعاف الزيادة في مستوى الدخل في البلدان الغنية كالولايات المتحدة على مدار القرن الماضي كانت نتيجة النمو الاقتصادي، و هو نفس السبب الذي يجعل نصيب الفرد من الدخل في الولايات المتحدة و أوروبا(و بالتالي مستويات المعيشة ونوعيتها)أكبر خمسين مرة مما هو عليه في معظم بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
إذن بمجرد أن نسلم بأهمية النمو الاقتصادي تظهر أسئلة ذات الصلة على الفور: لماذا هناك بلدان غنية و بلدان أخرى فقيرة؟ لماذا تحقق بلدان معدلات نمو سريعة في حين تعجز بلدان أخرى عن ذلك؟ و ما هي مصادر النمو الاقتصادي؟ يبدو أن هذه الأسئلة هي نفسها التي أثارها Adam Smith (1776) في أطروحته “البحث عن طبيعة و أسباب ثروة الأمم An Inquiry Into Nature and Causes of the Wealth of Nations”،حتى بعد أكثر من مائتي عام مضت ما يزال الاقتصاديون يسعون للإجابة عن هذه الأسئلة و حل لغز النمو الاقتصادي.
من الملاحظ أن النقاش الدائر حول جذور النمو الاقتصادي و أصول تفاوت الدخل العالمي قد تطور بشكل كبير عبر الزمن. ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية انقسم التحقيق الاقتصادي حول النمو الاقتصادي إلى العديد من المجالات: فقد أصبحت النظرية الرسمية للنمو الاقتصادي فرعا من فروع الاقتصاد الكلي؛ دراسة البلدان الفقيرة أصبحت جزءا من مجال التنمية الاقتصادية؛ نمو الإنتاجية ينتمي لمجال التنظيم الصناعي؛ و دراسة كيف أمكن للبلدان الغنية أن تصبح كما هي عليه الآن يصنف ضمن مجال التاريخ الاقتصادي.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، عاد النمو الاقتصادي للظهور كحقل مستقل في ميدان الاقتصاد و أحد المجالات الأكثر نشاطا في الدراسات البحثية. و قد شهد هذا المجال توسعا ضخما و بسرعة كبيرة لدرجة أنه لا يوجد موضوع آخر في الاقتصاد أكثر منه تكرارا في العناوين أو الملخصات أو المقالات العلمية أو الكتب حسب قاعدة بيانات Ecolit خلال الفترة ما بين 1981 إلى غاية 2010.ومع ارتفاع هذا العدد الهائل من المقالات العلمية زادت معه أيضا مقررات الدراسات العليا و عدد الباحثين حول هذا الموضوع. حاليا، يعمل جيل كامل من الباحثين في أطروحتهم للدكتوراه على النمو الاقتصادي كحقل منفرد في حد ذاته بدلا من كونه جزءا من حقول أخرى في الأدبيات الاقتصادية.
إن المزج بين العديد من الخطوط الفكرية للبحوث في مجال واحد يدرس ظاهرة النمو الاقتصادي يعتبر واحدا من أكثر التطورات الفكرية إثارة في علم الاقتصاد على مدار العقود الثلاثة الماضية. فقد سمح ظهور أدوات نظرية جديدة، بيانات جديدة و رؤى جديدة بظهور الجانب التجريبي الذي يشبه وضع اللحم على الهيكل العظمي المكون من كلا النظريات القديمة و الجديدة و التي أدت بدورها إلى اقتراح العديد من السياسات و الحلول لمعالجة الأسئلة القديمة–لماذا بعض البلدان أكثر ثراء من غيرها و لماذا تنمو بعض البلدان أسرع من غيرها؟
هذا الكتاب “مقدمة في النمو الاقتصادي” هو محاولة منا لتجميع الأدبيات المزدهرة في مجال النمو الاقتصادي حيث أنتجت الأبحاث المؤخرة كميات هائلة من الأمثلة الواقعية، مجموعات من البيانات الدقيقة و وجهات نظر تحليلية حديثة، لذلك فإن تنظيم هذه المواد الجديدة في بنية فكرية متماسكة لا تسمح باستيعاب سهل للطلاب و القراء لهذه الظاهرة فحسب بل و تقترح أيضا سبلا جديدة للبحث في المستقبل.
سعينا من وراء تجميع هذه المجموعة الواسعة من الأدبيات إلى تقديم هذه الأفكار حول النمو الاقتصادي بلغة بسيطة و في شكل يسهل للجمهور الواسع الوصول إليها. و بعيدا عن التعقيد و الاستخدام المفرط للأدوات الرياضية كما جرت عليه العادة في الكثير من المقالات العلمية و الكتب المدرسية حول النمو الاقتصادي، يحتاج القارئ فقط أن يكون ملما ببعض المعلومات الأساسية حول مبادئ الاقتصاد و الرياضيات(كقوانين التفاضل والتكامل)التي تدرس في معظم الكليات و الجامعات لاستيعاب هذه الأفكار بسهولة. و على هذا الأساس، في ظل هذه الاستراتيجية التي اعتمدت لتقديم النمو الاقتصادي و المرتكزة على التبسيط، الابتعاد عن التعقيد، جعل الموضوع ذا صلة بالواقع و بالتأكيد مجالا ممتعا قدم هذا الكتاب وفق التصنيف التالي:
يخصص الجزء الأول لتقديم نظرة عامة حول النمو الاقتصادي، حيث يتعامل الفصل الأول مع أسئلة مثل لماذا تختلف البلدان في مستويات المعيشة و لماذا تزداد بلدان غنى في حين تفشل أخرى عبر الزمن؟ على هذا الأساس، يعمل هذا الفصل–بشيء من التفصيل-على تسليط الضوء على عدد من الحقائق(الوقائع)حول الفروق في مستويات المعيشة.
أما الفصل الثاني يوجه لدراسة الاختلافات في معدلات النمو الاقتصادي من خلال الاستعانة بالبيانات الدولية التي تظهر بعض الحقائق حول اختلاف نمو مستوى المعيشة عبر العالم، و تسليط الضوء على مسار النمو الاقتصادي عبر تاريخ البشرية، مع الإشارة لأهم توقعات مسار النمو في المستقبل.
ويمكن الفصل الثالث القارئ من التعرف على مختلف الأدوات و القوانين التي تسمح له بتعلم كيفية قياس النمو الاقتصادي مع إعطاء العديد من الأمثلة العددية و بعض التمارين التطبيقية، بالإضافة إلى قياس مختلف المصادر المساهمة في النمو الاقتصادي باستخدام منهجية” محاسبة النمو “.
في الجزء الثاني نركز على الأسباب أو المصادر المباشرة للنمو الاقتصادي: تراكم العوامل و التقدم التكنولوجي. ونقوم باستعراض أهم نماذج النمو الاقتصادي المفسرة للتفاعل الحاصل بين تلك المحددات المباشرة و نمو الناتج في اقتصاد ما، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات رئيسية: نموذج النمو القائم على تراكم رأس المال المادي(نموذج Solow)،النمو القائم على تراكم رأس المال البشري(نموذج Lucas)و النمو القائم على التغير التكنولوجي(نموذج Romer).بدءا يقدم الفصل الرابع نموذج Solow –أول نموذج يساعدنا على فهم النمو الاقتصادي–كوصف لكيفية تطور الاقتصاد عبر الزمن، مؤكدا على الدور الذي يلعبه كل من تراكم رأس المال و النمو السكاني. يساعدنا دراسة نموذج Solow على فهم:
(1)لماذا هناك بلدان غنية و فقيرة
(2)و لماذا السكان في البلدان الغنية أكثر غنى مما كانوا عليه قبل مائة عام.
لكن ما سوف يدهشنا هو أن هذا النموذج لا يمكنه تفسير النمو الاقتصادي على المدى الطويل !!!من أجل إيجاد تفسير لهذه المعضلة، يعرض الفصل الخامس نموذج Lucas الذي يمكن من معرفة الكيفية التي يعمل بها تراكم رأس المال البشري (المهارات و التعليم)على استدامة معدلات نمو نصيب الفرد من الدخل على المدى الطويل، كما يوفر هذا النموذج إطارا نظريا للسياسات الاقتصادية الواجب إتباعها من قبل الحكومات التي تسعى للتأثير على النمو الاقتصادي عن طريق تعزيز كفاءة وزيادة تخصيص الموارد(المادية و البشرية)نحو قطاع التعليم. بعد ذلك، يعرض الفصل السادس نهجا آخر سمح بتوليد معدلات نمو مستدامة على المدى الطويل وهو نموذج Romer.يناقش هذا النموذج الدور الذي يلعبه اكتشاف الأفكار الجديدة في إدامة النمو على المدى الطويل: فتقسيم السلع الاقتصادية إلى أشياء و أفكار مكن من ظهور مجال اقتصاديات الأفكار الذي أدى إلى إحداث تغييرات عميقة في الطريقة التي نفهم بها العديد من مجالات الاقتصاد كالاختلافات الواسعة في الأداء الاقتصادي بين البلدان على سبيل المثال.
منطق الجزء الثالث من هذا الكتاب أنه لن يكون مفيدا لشرح عملية النمو الاقتصادي والاختلافات عبر البلدان الاستعانة فقط بالعوامل المباشرة طالما أنه يفترض وجود أسباب أعمق أخرى تفسر اختلاف تلك العوامل فيما بين البلدان. على وجه خاص، إذا كانت تلك العوامل جد مهمة في توليد الفوارق الكبيرة في الدخل بين البلدان و تسبب الانطلاق نحو النمو الاقتصادي الحديث فلماذا تفشل بعض المجتمعات في تطوير تكنولوجياتها، استثمار المزيد من رأس المال المادي و تحسين مخزونها من رأس المال البشري. يمكن الإشارة إلى تلك العوامل المحتملة التي تؤثر على الاختلافات الحاصلة في مستويات التكنولوجيا وخيارات المجتمعات المتعلقة بتراكم العوامل على أنها الأسباب الرئيسية للنمو الاقتصادي التي يتم تصنيفها إلى ثلاث فئات رئيسية: نظريات الجغرافيا، الثقافة و المؤسسات.
على ذلك، يتم في الفصل السابع مناقشة الأدبيات النظرية و التجريبية حول العلاقة بين المؤسسات و النمو/التنمية مع تقديم أمثلة أو تجارب “طبيعية” من التاريخ تدعم حجة ” المؤسسات “كمحدد رئيسي للأداء الاقتصادي عبر البلدان.
أما الفصل الثامن يناقش الحجج النظرية و الأدلة التجريبية المقدمة لصالح فرضية الجغرافيا، ثم ننتقل لمراجعة الجدل القائم حول ما إذا كانت الجغرافيا أو المؤسسات تحكم تفسير الفجوات الكبيرة الحالية في مستويات الدخل في جميع أنحاء العالم. لننتقل في الفصل التاسع و الأخير لدراسة جوانب الثقافة المختلفة و تأثيراتها الاقتصادية. بعد ذلك، ننتقل إلى مسألة طبيعة العوامل التي تحدد الثقافة: أي تحديد مختلف العوامل غير الاقتصادية التي من الممكن أن تؤثر على الثقافة.
نعتقد أن الذين اختاروا الاهتمام بالبحث في قضايا النمو الاقتصادي مفتونون بهذا المجال الشيق و المعقد. و الأهم من ذلك، نحن نؤمن أن دراسة النمو الاقتصادي يمكن أن يفسر الكثير من الأمور في عالم اليوم، و أن الدروس المستفادة–إذا طبقت بشكل صحيح–يمكن أن تجعل العالم مكانا أفضل.
في الأخير، نود أن نعرب عن صادق شكرنا و تقديرنا لكل من ساعدنا على إتمام هذا الكتاب ونخص بالذكر الأستاذ الدكتور بن يمينة رشيد من جامعة تيارت والأستاذة فتيحة عيدوني والآنسة بودبزة حنان لمساهمتهم القيمة في تدقيق و تصويب هذا العمل.
د. أمين حواس – أ. د. فاطمة الزهراء زرواط
الجزائر
