المقدمة
الحمد لله المنعم المتفضل، الذي أعز المؤمنين وأوجب عليهم الجهاد فريضة وأمرهم بالدفاع عن أموالهم وأنفسهم وأرضهم وعرضهم، جلّت حكمته وعظمت قدرته، والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي جاهد الكفار بنفسه، وكان قدوة للمسلمين في المعارك التي خاضها شجاعة وتخطيطاً وصموداً واستبسالاً، وصلّى اللهم على صحبه وآله أجمعين. وبعد:
كانت فترة الحروب الصليبية فترة حالكة في تاريخ الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة.
لقد امتدت هذه الحروب قرنين من الزمان، وبدأت حين هبت أوروبا في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي وتدفقت آلافها المؤلفة تجتاح بلاد المسلمين، وتزعم أنها تهدف إلى تحرير قبر إلهها الذي تدعيه، مؤمنة أنه يرقد في كنيسة القيامة ببيت المقدس.
لقد خاض المؤرخون في تفصيل أسباب الحروب الصليبية المعلنة منها والخفية وهم يجمعون على أن السبب الديني كان واحداً من أسباب كثيرة وتتفق دول أوربا يومذاك بزعامة البابا على احتلال بلاد المسلمين، وتنجح في تحقيق معظم آمالها وتحتل الساحل الشامي وبعض المدن الداخلية وتقيم مملكة بيت المقدس وإمارات أخرى، وتمتد أطماعها إلى مصر لكنها لم تستطع أن تحققها لأن الزمن كان قد تغير، والأهداف الصليبية كانت قد تكشفت، ولأن المسلمين كانوا قد بدأوا يستيقظون من سباتهم وتعود إليهم وحدتهم.
وكما أن المؤرخين قد سجلوا الأحداث التي وقعت، فإن الشعراء رصدوا بشعرهم هذه الأحداث وعبروا بعواطفهم- متحسرين أحيانا، فرحين أحيانا أخرى- عبروا بشعرهم عنها منذ بداية اشتعالها وحتى آخر صليبي على الأرض الشامية سنة 691هـ.
لقد قصرنا الحديث على شعر الجهاد الذي نظمه شعراء الشام حتى نستطيع أن نسلط الأضواء عليه ونعطيه شيئاً من التركيز، ذلك أن ما قاله الشعراء في الأقطار الأخرى –خاصة شعراء مصر- شيء كثير، وهو بحاجة إلى دراسة مستقلة.
لقد اخترت هذا الموضوع كي أكتب فيه لسببين: أولهما: نفسي وثانيهما: أدبي.
أما الدافع النفسي فلأنني ما كدت أفتح عيني حتى رأيت وشاهدت عدواناً جديداً يحتل الأرض نفسها التي كان الصليبيون يحتلونها قبل بضعة قرون وفي الوقت نفسه يرفع الشعار الديني سبباً لاحتلاله ثم إن دول أوروبا نفسها هي التي تسانده وتعضده وتمده بالقوة والسلاح والمال.
ومثل هذه الفجيعة تركت في جيلنا -وستترك في الأجيال القادمة، أسى وحسرة.
وخلال قراءتي لأدب الحروب الصليبية عاد الأمل إلى نفسي، ذلك أنني وجدت أن التاريخ يعيد نفسه، وكما تحررت البلاد في الماضي آمنت أنها ستحرر في الحاضر أو في المستقبل القريب -إن شاء الله تعالى- فكتبت هذا البحث تعزية للنفس الحزينة وتأميلاً لها بمستقبل مشرق -بإذن الله-.
أما الدافع الأدبي فيرجع إلى أنني وجدْتُ انصرافا من الكتّاب والأدباء عن دراسة أدب هذه الفترة، بل إنّ كثيرين منهم أطلقوا عليه أدب الانحطاط، آخذين بأقوال وآراء المستشرقين الذين رغبوا في أن نبتعد عن دراسة تاريخ وأدب هذه الحروب لأسباب كثيرة لعل منها: رغبتهم في عدم إطلاعنا على وحشية الصليبيين وقسوتهم، ثم حتى لا نشعر بالعزة والفخار ونحن نقرأ عن تاريخ الأبطال المسلمين عرباً وأتراكاً وأكراداً -يقودون الجيوش وهم يحملون راية الإسلام -راية الله- مقاتلين ومجاهدين ومنتصرين.
إن أدب هذه الفترة ما زال بحاجة إلى دراسات مستفيضة، ثم إلى إعادة تقييم، وحينئذ سنجد أن آراءنا قد تغيرت تغيراً إيجابياً لأننا سنجد فيه الكثير مما يستحق الدراسة؛ وسنجد الكثير من الأشعار اللطيفة الرقيقة في الغزل والحماسة ووصف المعارك ومديح الأبطال وسنجد الشعر الحزين الباكي في رثائهم.
لقد اعتمدنا في بحثنا هذا على مصادر رئيسية معظمها كان من المصادر التاريخية الأدبية كالتاريخ الباهر لابن الأثير الجزري (ت630هـ) وفيه تحدث عما شهده في أتابكية الموصل الزنكية.
ومنها كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين النورية والصلاحية (599-665) لأبي شامة وكذلك ذيل الروضتين له أيضاً.
ومنها أيضاً كتاب مفرج الكروب في تاريخ بني أيوب لابن واصل (ت697) وهو تأريخ لدولة بني أيوب وقد شهد نهاية المحنة (691هـ).
وكذلك سيرة صلاح الدين للقاضي ابن شداد وهو قاض عاش الفترة الأخيرة من حياته في بلاط صلاح الدين وشهد حصار عكا وصلح الرملة وغيرهما من الأحداث الكبار ومنها الفتح القسي والبرق الشامي للعماد الأصفهاني (ت597هـ) وهو مؤرخ وشاعر وكاتب عاش فترة طويلة من حياته في بلاطي نور الدين وصلاح الدين وشهد معظم ما خاضاه من حروب داخلية وخارجية، ومن الكتب الأدبية خريدة القصر للعماد نفسه وهي تراجم لأدباء عصره ومن سبقهم بقليل.
ومن الدواوين ديوان أسامة بن منقذ وديوان القاضي الفاضل وديوان ابن الخياط وشرف الدين الأنصاري وابن عنين وعرقله الكلبي وغيرهم وكلهم شهدوا فترة من الأحداث وصوروها.
أما الدراسات الحديثة فهي قليلة نسبياً قياساً على ما كتب في أدب العصور السابقة ومن أهمها: الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام للدكتور أحمد أحمد بدوي وكتاب الحروب الصليبية وأثرها في الأدب العربي في مصر والشام لمحمد سيد كيلاني.
ومنها أيضاً كتاب الأدب في بلاد الشام (عصور الزنكيين والأيوبيين والمماليك) للدكتور عمر موسى باشا. وكتاب الأدب في عصر صلاح الدين للدكتور محمد زغلول سلام.
لقد استفدنا كثيراً من هذه الدراسات في وضع خطة بحثنا الذي جعلناه في تمهيد وخمسة فصول وخاتمة.
وسوف نوضح في التمهيد معنى الجهاد وصوره وأشكاله.
أما في الفصل الأول فسوف ندرس الحالة السياسية في العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية وخلالها.
وسنخصص الفصل الثاني لموقف الشعراء من الأحداث الداخلية التي جرَتْ في عهد زنكي ونور الدين وصلاح الدين إلى أنْ تمّ توحيد مصر والشام واليمن والحجاز تحت قيادة صلاح الدين.
وسوف ندرس في الفصل الثالث موقف الشعر من الأحداث والحروب التي جرت مع الصليبيين منذ عهد زنكي (ت541) وحتى احتل الأشرف خليل بن قلاوون آخر قلعة من قلاعهم سنة 691 هـ.
وسنفرد الفصل الرابع لدراسة أغراض شعر الجهاد كمديح الأبطال ورثائهم وهجاء المتخاذلين ووصف المعارك وما شابه ذلك.
أما الفصل الخامس فسوف ندرس فيه الخصائص الفنية لهذا الشعر.
وسننهي هذا البحث بخاتمة نستعرض فيها نتائجه.
إننا نقدم هذا البحث آملين أن يجد فيه القارئ شيئاً جديداً ينال رضاه داعين الله سبحانه أن يكتب لنا التوفيق والسداد.
إن أملنا هو تحقيق النجاح في هذا العمل، فإن تحقق ذلك فهذا هو بغيتنا وهدفنا وإن لم يتحقق فإننا نسأل الله حسن الجزاء على اجتهادنا.
والله نسأل أن يوفق الجميع إلى ما فيه الخير
وهو نعم المولى ونعم المجيب
المؤلف
د. فؤاد أبو الهيجاء