النقد والسياسة النقدية

المقدمة
إذا كان العمل بمثابة القلب النابض في الجسم الاقتصادي، فإن النقد هو بمثابة الدم الذي يسري في هذا الجسم. فلابد من توازن طبيعي بين كمية هذا الدم وقوة ذلك القلب، وإلا حدث اختلال. وهذا يرمز إلى حقيقة أساسية في الاقتصاد تتمثل في ضرورة التوازن بين كمية الإنتاج وكمية النقد. وهو ما أصبح يترجم في الواقع العملي بالتحكيم بين البطالة والتضخم. وهما أكبر مشكلتين يواجههما التحليل الاقتصادي المعاصر.
لقد دأب الفكر الاقتصادي لعقود من الزمن على عقيدة الانفصام بين الاقتصاد النقدي والاقتصاد الحقيقي، وهو ما يطلق عليه أيضا مبدأ حياد النقد أو “النقد الغطاء”. ولعل خير تعبير عن ذلك المعادلة التقليدية للتبادل وصيغة التوازن العام الفالراسي.
لقد كان رد الفعل تجاه تلك العقيدة التقليدية قويا من طرف كينز، الذي استطاع أن يشيّد عقيدة جديدة في النقد، على أطلال العقيدة التقليدية، تقوم على مبدأ النقد “الفاعل”، بدلا من النقد “المحايد”.
ومع اعتبار كينز بمثابة همزة الوصل بين التحليل النقدي الكلاسيكي والتحليل النقدي الحديث، إلا أنه لا ينبغي إغفال تحاليل نقدية سابقة له حول دور النقد في الاقتصاد، ولعل أبرزها تحاليل كل من السويدي فيكسل والفرنسي أفتاليون والإنجليزي هاوتري والنمساوي هايك والأمريكي باتينكين … وغيرهم.
ومع ذلك يمكن القول إن كينز كان الأبرز، من بين هؤلاء، في تمهيد الطريق لمسار جديد للنقد، والذي توسع فيما بعد، مع مجيء النقديين، إلى حدود متطرفة. وقد كانت نهايته التحول من عقيدة أن النقد لا شيء في الاقتصاد إلى عقيدة أن النقد هو كل شيء في الاقتصاد.
غير أنه كان على هذا التيار الجديد، أي النقدوية، أن يقضي سنوات من (النضال) حتى يثبت مدى صحة رؤيته؛ فلقد ظلت الكينزية مهيمنة على الأفكار وعلى السياسات الاقتصادية، على حد سواء، حتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين، قبل أن يطفح بها الكيل إثر عجزها عن مواجهة حالة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الاقتصاد: “الركود التضخمي”.
ومع احتدام الصراع بين التيارين الكينزي والنقدوي، والذي كان قد بدأ منذ الخمسينيات، برزت محاولات جديدة تحاول التوفيق بينهما من خلال الأخذ بمحاسن كل تيار، من دون إقصاء لأي منهما، حمل لواءه من عرفوا باقتصاديي التركيب.
وهكذا يتجلى لنا أن تاريخ الفكر الاقتصادي، على حد تعبير Blaug، ما هو إلا تاريخ مجهوداتنا لفهم سير الاقتصاد القائم على التبادل النقدي(1)، كما إن كل الصراعات الاقتصادية البحتة تدور حول دور النقد داخل الحركيات الاقتصادية، وهو الموضوع الذي ظل محل ارتباك من لدن الاقتصاديين ولمدة طويلة)2(.
وفي الحقيقة، لم يكن الصراع حول دور النقد وليد القرن الماضي فحسب، بل يرجع إلى عصور غابرة. ولعل أبرز ما يدلنا عن هذه الحقيقة هو المناقشات والقوانين المتعلقة بالربا. فنحن ندرك أن »قوانين مكافحة الربا تعد من أقدم التدابير الاقتصادية التي رواها لنا التاريخ« (3).
إن مكافحة الربا يعني في الواقع مكافحة كل أشكال المتاجرة في النقد، ومنه رفض كل أشكال القرض بفائدة. وهو ما يعني، بتعبير آخر، الدفاع عن مقولة “النقد لا يلد النقد” (la monnaie ne fait pas des petits)، والمقررة في كافة الأديان السماوية.
غير أن واقع الاقتصاد المعاصر يقوم على عكس هذه الحقيقة. فالنقد أضحى سلعة كباقي السلع، تباع وتشترى، ولم يعد مجرد ذلك “المكافئ العام” وأداة لتخزين الثروة. فالقرض بفائدة أصبح منطقا مكرسا، حتى ساد الاعتقاد بين كثير من الناس بأنه لا يمكن قيام اقتصاد خارج نظام الفائدة.
ومع ما تشكل، وفق هذا المنطق، من نظريات ونماذج نقدية، وقيام كل السياسات النقدية عليه، لم يلبث اقتصاديون آخرون من مواجهة نظام الفائدة والتقليل من أهميته مقارنة بنظام المشاركة.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى ما قام به الباحثون المسلمون، وخاصة خلال العقود الأربعة الأخيرة، أي مع انطلاق مسيرة المصارف الإسلامية. وقد استطاع هؤلاء تقديم اجتهادات عملية كثيرة في مجال التمويل اللاربوي وفي مجال السياسة النقدية.
وهذا الكتاب هو محاولة متواضعة لاستجلاء أبرز الرؤى في مجال النقد والسياسة النقدية، عبر مختلف المذاهب والمدارس الاقتصادية. ولا ندعي الإحاطة بالموضوع، فما كتب حول موضوع النقد أكبر مما كتب عن غيره من المواضيع الاقتصادية. ولذا فإننا نلتمس العذر من القارئ عن أي نقص أو إغفال في بعض الجوانب، ونرحب بكل الملاحظات في هذا الشأن.
الدكتور رحيم حسين