المقدمة
كأننا منذورون للأساطير أو أننا أُسطورة تمشي على الأرض، إذ جعلنا بيت العزاء مناديل أعراس لا تنتهي، وأحلنا الخيمة إلى دالية تورق وتمتد بنسغها حتى تظلل أقواس المدن التي سرقوها، واستطعنا أن نجعل الأقبية قلاعاً تضج بالنهار.
هذا هو الفلسطيني الذي حوّل الظلمة إلى أفق له احتمال واحد، هو الشروق الطالع من الساحل والبيارات والمطهّم بتفاصيل الحكاية إلى النهر، ليكون أُنموذجاً لا يبهت على ألواح تسطعُ بفعل الدم والإرادة والانتماء.
والسجن في حالتنا واشتباكنا ومجالدتنا المتواصلة، بكل حمولتها المؤلمة، والقاسية، له وجه آخر ينبغي للتاريخ أن ينحني أمام تفاصيله وعمقه وكبريائه، لأن هذا الوجه أعطى للإنسان هامشاً جديداً يؤكد قدرته، خصوصاً إذا كان فلسطينياً ينهض على جذر حضاري وحق أكيد، ينبغي على الدارسين في العلوم الاجتماعية أن يتمعّنوا في بدايات علم جديد لإنسان تجاوز النظريات التي فككت البشر، وسبرت أغوار إمكانياتهم، لتصل إلى حقائق ساطعة ومبهرة تنبئ بإنسان له طاقة أُخرى، تمكنه من أن يتشاوف لامتلاكها.
يذهب نحو تفجير طاقات أُخرى جديدة تجعل الآدميين يستبشرون بذواتهم قوة أكثر مما يعرفون عن أنفسهم بتواضع وثقة، هي ذاتها الثقة التي تمكنهم من الاطمئنان على أنهم صاروا على بعد نبضة قلب من الوعد. والسجن تأريخ، ووثيقة اجتماعية ونفسية وثقافية، وشاهد للضحية على الجلاد. وهذا هو ما يجعلنا نمتدح الذي يضمه هذا الكتاب، والذي يسد ثغرة في جدار روايتنا الكبرى، لأننا مطالبون بتأصيل تاريخنا منذ قرن على الأقل بما يشمل كل قطرة دم ونقطة ماء وحبة برتقال وحجر وشجرة وطير ورضيع، هي ضحايا. ولا بد للأجيال القادمة من أن تعي كل ما يحيط بهذه الضحايا في مواجهة رواية احتلالية ملفقة وخطيرة، وفي مواجهة العدمية القومية للجيل الجديد الذي لا ينسى أرضه وعروق الثوب وقصة البيت وكيف بقروا بطون الحوامل في ليل دير ياسين وصبرا وشاتيلا وبحر البقر والقدس وغزة، أو كيف قتلوا مع سبق الإصرار الجعفري وحلاوة بسادية ودم بارد، وكيف يخلعون الزيتون عن عرشه الأبدي ويستبدلون بالجغرافيا الجديدة الكريهة التاريخ الحقيقي الذي يريدون له أن يتبدد.
إن هذا الكراس مرافعة يجب أن يقدمها كل من يمتلك مثلها من أسرى وضحايا وأيتام ومشردين، حتى لا يستمر الاحتلال في احتكار صورة الضحية ويداه تقطران بدم الأبرياء.
إن سجن نفحة الذي بناه الاحتلال قبل ثلث قرن كان يشهد على هذا الاحتلال ذاته؛ إنه الاحتلال الذي يهدم بجرافاته وقنابله البيوت المْطمئنّة والمدارس والمساجد مثلما كان يمعن في القتل في قانا ومخيم جنين ويسجن جثث الأسرى في ثلاجاته ومقابر الأرقام.
إن هذا الاحتلال الذي يريد عبر إعادة إنتاج كل أشكال القمع على مدار القرون، وتطويرها وصبها على كل ما هو فلسطيني في السجون الصغيرة والكبيرة
ظناً منه بأن إنهاك الجسد يكسر الروح، هو ذاته الاحتلال الذي تضاءل وانهزم
أمام المارد الفلسطيني رغم قيوده. والمفارقة أن الاحتلال لم يدرك بعد العبرة ولم يستخلص النتيجة.
أما نحن، وبالرغم من النعوش الطائرة على الأكتاف بفعل رصاص الاحتلال وغازه المسيل للعار، فإننا نبسط يد الحياة على قاعدة الندية وتمكيننا من حقوقنا التاريخية كافة. ولن نكون، في أي حال من الأحوال، إلا حضاريين، نصون لكل بشري حقه في الحياة والأمن والسلام، على أن يحظى بذلك كل أبناء الشعب الفلسطيني على أرضهم الحرة والمستقلة، وتكون القدس كما يليق بها أن تكون: أرض السماء وأُم المدائن.
ويشرفني أنني كنت ممن صاغوا هذه الملحمة في ليل نفحة الطويل. وقد خضت مع إخوتي ورفاقي الإضراب الفدائي البليغ. وكنت أحد الذين كتبوا هذا الكراس الذي يحملني اليوم على أجنحته لأسترجع تلك الأجواء والوجوه والمشاعر التي انتصرنا بها معا، بإرادتنا ووعينا واختيارنا الحر الحاسم، على الجلاد السجان. وفي هذه الاستعادة ما يجعلني أقارن ذلك الزمن المحتشد بالبطولة والرجال بهذا الزمن بعد ثلث قرن، لأرى بتأمل كامل الأسى، الرسم البياني الذي انحنى وأوصلنا إلى لحظة كابية مرتبكة، أواجه رمادها بإعادة تلك الروح لتشتعل في ربوع فلسطين، لعلنا نؤسس، مرة أخرى، مرحلة تتسامى بالفدائي والأحلام والرسوخ.
ولهذا الكراس حكاية، بدأت عندما وصلتنا رسالة سرية من الشهيد القائد ماجد أبو شرار، عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، يطالبنا فيها بتوثيق الإضراب. وما أن شرعنا بالتفكير في الأمر، لوجاهته وأهميته، حتى جاء خبر استشهاد ماجد أبو شرار في ايطاليا.
اتخذنا قراراً وذهبنا سريعاً لإنجاز الكراس استجابة للطلب، ووفاءاً لروح الشهيد أبو شرار، الذي يطل بروحه علينا صباح مساء، يشحذ همتنا ويحثنا. وفي اللحظة التي صدر فيها تقرير لجنة إيتان، وهو التقرير الذي أعدته إدارة السجون الإسرائيلية لكي تزوّر وقائع الإضراب واستشهاد اثنين من نزلاء نفحة، سارعنا إلى تشكيل لجنة من خمسة معتقلين هم: جبريل الرجوب، محمد حسان، عمر القاسم، يعقوب عوده، يعقوب دواني، على قاعدة الاحتكام للعمل التنظيمي في المعتقل، أي بقرار من اللجنة الإعتقالية لنفحة. وعلى أساس القدرة، تمّ اختيار من يستطيع إنجاز مثل هذا الأمر.
توالت جلسات الحوار والنقاش والنظر في المسألة، وقراءة وتفكيك تقرير لجنة ايتان، واستعادة كل لحظات الإضراب ومقارنتها بعضها ببعض، وتبيان نقاط التقاطع والتجاور والمفارقة، وما إلى ذلك. نجاح اللجنة في هذا العمل التمهيدي، دفعني إلى بلورة اقتراح أجمله، هنا، بضرورة أن يتضمن الكراس تقديماً يضيء تاريخ الحركة الأسيرة ومراحل مسيرتها، ويعرض الأسباب التي قادتنا للتفكير بالإضراب. وقد حرصنا على أن يتضمن الكراس تفصيلاً لكل مكونات الإضراب، بدقائقه وأحداثه، وصولاً إلى الرد على تقرير لجنة ايتان وتفنيد التقرير الذي وصفناه بأنه تقرير طمس الحقائق. كما اقترحت أن تتم كتابة الكراس بلغة وحدوية تنأى عن الفصائلية والشخصية والذاتية، وتقدم حدث الإضراب باعتباره شاهداً حياً ينبض بمعاناة الأسرى، كونهم كتلة ملحمية تتجاوز تجربة الإضراب الفردي. وبعد أن تتم كتابة كل ذلك، يُطرح المكتوب ليقرأه كل أسير، ليبدي ملاحظاته واقتراحاته، وذلك لضمان الشمولية والاكتمال والموضوعية التي يجب أن يتزيّا بها هذا الكراس.
تم إنجاز الكراس، بالرغم من اعتذار أحد الأعضاء الخمسة، وبصرف النظر عن غلبة التجربة الشخصية لاثنين آخرين قدما مساهمتهما لإنجاز هذا الكراس.
وزّع الكراس على الإخوة والرفاق الثلاثة والسبعين، كلّهم. وهؤلاء هم الذين شكلوا المجموعة الأولى التي هيأت وخططت وخاضت الإضراب. وفي المحصلة،
تم تكليفنا، يعقوب دواني وأنا، بإعادة كتابة ما يلزم لاستكمال هذا الكراس وتحرير مواده والتدقيق في جزيئاته. وتقرر أن يوزّع الكراس بعد ذلك على الجميع، الذين قرؤوه بإمعان وأخضعوه لنقاش معمق طويل، ليصل إلى هذه الصيغة المنشورة بين دفتي هذا الكتاب.
تمكنا في صيف العام 1982 من تهريب نسختين من الكراس كأنهما بعض دفاتر إجابات امتحانات الثانوية العامة، الذي يتقدم إليها بعض المعتقلين لنيل شهادة التوجيهي. وتسلم النسختين الأخ موسى أبو صبحه، الذي قام بدوره بإيصال نسخة إلى الشهيد فيصل الحسيني في القدس، والنسخة الثانية إلى الشهيد العبقري خليل الوزير “أبو جهاد” في بيروت، وكانت حرب اجتياحها تدب على الأبواب.
وفي أيلول/سبتمبر 1984، شهد سجن جنيد، في نابلس جبل النار، وقائع إضراب ملحمي، صاحبته حركة شعبية فلسطينية فاقت التصورات، ما جعله الإضراب الأكثر شهرة وسخونة. هذا الإضراب خاضه 920 معتقلاً يقبعوا في باستيلات الاحتلال وأقبيته القاتلة. فسارعتُ من فوري إلى توثيق هذا الإضراب بكل حمولته ومطالبه وتداعياته، متكئاً على توطئة امتدت في عمق تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية التي تُوِّجت بهذا الإضراب. ساعدني على توثيق هذا إضراب جنيد 1984 أنني كنت حينها المعتمد التنظيمي لـ “فتح” في السجون، ورئيساً للجنة النضالية العليا للإضراب. ولحسن الطالع، تمكنتُ من تهريب ما سجلته في كراس عنونته “الزنزانة رقم 704″، ليصدر في كتاب، في تاريخ تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، العام 1984، عن دار إبن رشيد في عمان. وقد أشرف على طباعة الكتاب ورعاه الشهيد الكبير أبو جهاد رحمه الله.
غادرت السجن في العشرين من شهر أيار/مايو 1985، حين أفرج عني مع ألوف ضمن صفقة تبادل الأسرى الشهيرة آنذاك. ورحت أبحث عن كراس إضراب نفحة، فلم أجده.
مع تفجر الانتفاضة الكبيرة في أواخر 1987 وتصاعدها، أبعدتني سلطات الاحتلال خارج فلسطين في العام 1988 قهراً وظلماً. ووصلتُ إلى تونس، مقر قيادة م.ت.ف. حينها. وقد دعاني الشهيد أبو جهاد مع الأخ نبيل أبو ردينة إلى عشاء في بيته، ليلة 14/4/1988، قبل استشهاده بيومين، حيث قضينا معاً ليلة بيضاء امتدت إلى الفجر. في ذلك الفجر، عانقني أبو جهاد كأنه كان يودعني الوداع الأخير. وكنت قد سألت القائد الفذ عن الكراس، فأوضح أنه قد وصل إليه في حمأة الحرب على لبنان وحصار بيروت، وأنه فقد كباقي الأشياء الحميمة.
وبعد العودة إلى الوطن وانهماكي لسنوات كثيرة في مسؤوليات شتى، تسنى لي أن أصير أستاذاً محاضراً في جامعة القدس. وقد زرت غير مرّة مركز الشهيد أبي جهاد، الذي يضم الكثير من أدبيات ومشغولات المعتقلين والأسرى المحررين، وطلبت من القائمين على المركز أن يبحثوا عن كراس إضراب نفحة 1980.
وبفضل الله تعالى، وجد هؤلاء النسخة التي كانت وصلت إلى الشهيد فيصل الحسيني، وكان أودعها مكتبة بيت الشرق في القدس، ليحفظها مركز أبي جهاد مع باقي مكونات المكتبة. ولكم فرحت حين لامستُ بجوارحي النسخة ذاتها التي طالعتني حروفها بخط الأسير عدنان وشاح، الواضح البسيط!
واليوم، أتشرف بأن أُقدم هذه الوثيقة التي كتبناها بالدم والمعاناة وخفقات الضلوع، وأضعها كما هي بين أيدي القراء الأعزاء، وايسِّرُ الحصول عليها لكل إنسان ينحاز إلى قيمه المطلقة لمواجهة البشاعة والاستلاب والقمع والتمييز والعنصرية والكراهية والظلم والاستعباد.
أرجو أن أجعل ريع هذا الكراس/ الكتاب وقفاً وحقاً مكتسباً لمركز الشهيد أبي جهاد، لأنه يحرس ذاكرتنا ويحميها ويحمل ذاكرة أسرى الحرية المخطوطة والمرسومة والمهربة! ولأن المركز يحمل أسم واحد من أعظم العمالقة الشهداء وهو خليل الوزير “أبو جهاد” فإني آمل أن يقرأ أحفاده كتاب الورد وليس كتاب الدم! لكنه الاحتلال الذي يدمينا ويدمر الإنسان في نفسه.
جبريل الرجوب