مستويات الأداء البياني في تشكيل الصورة الشعرية عند أحمد مطر

المقدمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، حمداً يليق بجلاله وكماله ، والصلاة والسلام على نبي خير الأُمم سيدنا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
أما بعد :
فإنَّ القصيدة نظام متكامل تتداخل فيه الأشكال المحسوسة واللامحسوسة ، وهي موجهة لعالم يكشف عن تغير في حقائق الوجود والكون ، وهذا الكشف لا يتم إلاّ بالصورة ؛ لكونها أبرز المكونات الفنية للقصيدة وأكثرها فعالية .
وتُعدُّ الصورة الشعرية من أقدر الوسائل في نقل الأفكار العميقة والمشاعر الكثيفة في أوجز عبارة ، فتكشف فيه عن موهبة الشاعر الشعرية ومقدرته الفنية وطاقاته الإبداعية ، وهي تمثل جوهر الإبداع اللغوي الذي يولد طاقاتها الجمالية وإشكالاتها الدلالية ، لذا فهي أداة التعبير الوحيدة عن الشخصية ووسيلة تفكيرها ورؤاها ، وهي من جهة ثانية تخلق لدى المتلقي حالة إذعان وانقياد نفسي للإقناع.
وتكمن أهمية الصورة في تجسيدها للأشياء واعتمادها وسيلة للحكم على أصالة الشاعر كونها تعكس حقيقته ، كما يقول هربرت ريد .
أما أهمية دراسة مستويات الأداء البياني في تشكيل الصورة الشعرية عند أحمد مطر ، فتكمن في كون شعره يمثل تحدياً كبيراً لاستعمال تداخل النص ، فشعره شعر رفض وثورة وتمرّد على الواقع الفاسد ، فعكس صورة واقعية للحياة اليومية السياسية والاجتماعية ، مثّلها بأسلوب ساخر قائم على المفارقة الذي ميّزه عن غيره من شعراء عصره، من خلال رمزية الكلمة الموحية شكّلها بأسلوبه الواضح السهل الممتنع ليحمل محنة الإنسان العربي، ويعمل على تعرية الحاكم الفاسد، فعكست وضوح موقفه السياسي وثبوته .
أما أهمية الدراسة فتمثلت في كون شعره يحمل طابعاً مميزاً للصورة ؛ إذْ أنها مثلت قضية شعب بل أُمة فدفع ثمن ذلك أن تغرّب طيلة حياته ، وقد عكسها بطريقة مبتكرة في أشعاره التي سُمّيت بـ (اللافتات) وعرف بها، فميزته عن غيره كما أنها عرفت به، مما أكسبه سمة الريادة وأكَّدت تميزه في تعامله مع القصيدة تعاملاً جميلاً، فحقَّق الوصول إلى نقطة يمتزج فيها الوعي بالتجربة، فتحقق للنص الإبداع المتفاعل مع الأزمات بهيأة تغاير النص الشعري ؛ لكن الصورة في شعره لم تأخذ قيمتها الفعلية في الدراسات والمقالات التي كتبت عنه ومنها : (عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر، كمال أحمد غنيم) ، و(شعرية السرد في شعر أحمد مطر، الدكتور عبد الكريم السعيدي، ورسالة في الماجستير بعنوان (مظاهر التناص الديني في شعر أحمد مطر ، عبد المنعم محمد فارس سليمان) ، وأُطروحة في الدكتوراه بعنوان (التناص في شعر أحمد مطر، عبد المنعم جبار عبيد)، ورسالة ماجستير بعنوان (التناص معياراً نقدياً شعر أحمد مطر أنموذجاً، أحمد عباس الأزرقي).
والجليُّ في الدراسة الحالية أنها تختلف من وجهة أساسية وهي وجهة منهجية في الأساس، إضافة إلى أن جانباً مهماً من الأساليب البيانية التي أسهمت في تشكيل صوره الشعرية ، لم تقف عنده تلك الدراسات وإن أشارت إليها فهي لا تتعدى التلميح من دون الغوص في تلك الوسائل التي رفعت الشاعر إلى مستوى التفرد والإبداع والابتكار ، بالإضافة إلى مصادره التي أغنت تجربته الشعرية ، فزخر شعره بمأثورات دينية وتراثية متنوعة منها (القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، والرموز، والأساطير، والأقنعة ، والأمثال الشعبية ، والتناص مع الشعر العربي القديم والخُطب ، والكلام الجاري على ألسنة الناس) ، فولدت تعالقاً مع النصوص الشعرية المطرية ، وارتبط معها في جدلية قائمة على التبادل والتداخل والتلاقح ، لذا حاولتُ أن أتقصى من هذه المدركات المكونات التصويرية في محاولة لفهم شعر أحمد مطر والغوص في مكامنه الجمالية والفنية ، لذلك رأيتُ أنه موضوع جدير بالدراسة .
ولما كانت الصورة في أساسها تجسيداً لعلاقات متعددة داخل البناء الشعري ، حاولتُ القيام بالكشف عن تلك العلاقات ومدى تشابكها وتفاعلها داخل النص الشعري مع مراعاة أني لا أنوي إحصاء تلك الصور إحصاءً شاملاً بقدر ما أسعى إلى الكشف عن نوعيتها ونظامها الخاص عند الشاعر .
وقد جابه بحثنا هذا بعضاً من الصعوبات أهمها :
الرهبة من دخول عالم الشاعر أحمد مطر ومواجهة موضوع حيوي كالصورة في شعره ، وندرة المصادر الحديثة التي تُطفِئُ غلتي في البحث في أغواره، مما اضطرني إلى السفر أنا وعائلتي إلى دول عربية عدة منها (الأُردن ، ولبنان ، وسوريا) في ظل الوضع الأمني العربي الصعب والقلق ، فضلاً عن ظروف خاصة أحاطت بي في بداية إعدادي الأُطروحة وهي وفاة والدي (رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته) … ؛ ولكن بصبر أمدني به الله تعالى ومساعدة من المشرفة والأهل والأصدقاء استطعتُ أن أصل ببحثي هذا إلى برّ الأمان متخذة من الأمانة العلميّة وسيلة والحقيقة غاية .
أما خطة البحث ، فقد اقتضت تقسيمه على ثلاثة فصول يسبقها تمهيد حاولتُ فيه التعريف بالصورة الشعرية من خلال التركيز على أهميتها وبيان قيمتها عند القدماء والمحدثين ، إضافة إلى بيان الوسائل البيانية التي اعتمد الشاعر عليها في نقل عاطفته وفكرته ، وقد حمل عنوان (الوسائل البيانية وتشكيل الصورة الشعرية).
أما الفصل الأول ، فقد عرضتُ فيه أهم المصادر التي استقى منها أحمد مطر مادة صوره ، وعنوانه (مصادر تشكيل الصورة عند أحمد مطر) ، وقد جاء في مبحثين ، فخصص المبحث الأول لدراسة (التراث الديني والتاريخي)، أما المبحث الثاني فاختصَّ بدراسة (التراث الأدبي والشعبي).
ويأتي الفصل الثاني لدراسة (وسائل تشكيل الصورة الشعرية عند أحمد مطر)، وقد جاء في مبحثين : تناول المبحث الأول : (بنية المشابهة) التي من أهم عناصرها (التشبيه، والاستعارة)، فمثلت طاقة الخيال المؤثرة .
أما المبحث الثاني ، فقد تناولتُ فيه (بنية المجاورة) التي تقف موازية لبنية المشابهة، ومن أهم عناصرها (الكناية ، والقناع ، والمفارقة ، والرمز) .
وأخيراً يأتي الفصل الثالث ليدرس (أساليب بناء الصور الشعرية عند أحمد مطر)، وقد جاء في مبحثين تناولتُ في المبحث الأول : دراسة (أساليب بناء الصور الكلية)، التي تمثلت بـ (البناء الدرامي، والبناء المقطعي ، والبناء الدائري، والبناء التوقيعي) ، وقد مثَّل وروده في النص الشعري المطري بنسب متفاوتة.
أما المبحث الثاني، فقد خصص لدراسة (أساليب بناء الصور المركبة) ، التي تمثلت بـ (حشد الصور المفردة ، وبناء الصورة المركبة عن طريق العلاقات التكاملية بين الصور المفردة) .
وتلا ذلك كلّهُ خاتمة تضمنت أهم النتائج التي توصل إليها البحث لعلّه يكون منطلقاً لدارسين آخرين .
وختام القول : إنّنا لا نملك إلاّ التذكير بمقولة القاضي الفاضل التي أرسلها للعماد الأصفهاني التي يقول فيها : (إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه ، إلاّ قال في غده : لو غُيّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر …)
المؤلفة