صناعة الكتاب بين المؤلف والوراق

المقدمة
عرفت الكتابة منذ عصور قديمة متدرجة من الرموز البدائية البسيطة في جدران الكهوف أو على الصخور، إلى الكتابة المعبرة عن المعاني المختلفة الأغراض سواء كانت دينية أو شرائع ملكية وقوانين للدولة، أو معلومات أخرى مما أدت إليه الحاجة البشرية كبعض أمور المعرفة الفلكية أو العلمية.
كما عرفت العهود القريبة من ظهور الإسلام أنواع الكتابة وقد ذكر الجاحظ في الحيوان(ص63) خط الحاذي والعراف والزاجر.
وكان فيهم خليس الخطاط الأسدي. لذلك قال شاعرهم في هجائهم:
فأنتم عضاريط الخميس إذا غزوا غناؤكم تلك الأخاطيط في الترب
وقد أظهر البحث الحديث كما هو مبين في كتابنا هذا في موضعه معرفة العرب بالتنقيط والقلم والقرطاس والورق والكتاب والكتابة وما يشتق منها، والقراءة، والصحف ولهذا خاطبهم القرآن الكريم عند نزوله باللغة التي يعرفونها والكلمات التي كانوا يستعملونها فعلى سبيل المثال لا الحصر نورد قـول الله تعالى ( كِرَامًا كَاتِبِينَ 11 يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) [الانفطار:11-12] وقــال تعالى: ( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)) [عبس:13-15] وقال تعالى:(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) [الانشقاق:10] وقـال تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:14].
وما أنا استقر النبي  في المدينة حتى اتخذ الكتاب بين يديـه ليكتبوا في شؤونه المختلفة فضلاً عن كتابة الوحي. وكان خلال حياته  يشجع الناس ويحثهم على تعلم القراءة والكتابة. وهكذا كلما مر زمن اتسعت دائرة القارئين الكاتبين فما أن وحد عثمان  النسخ القرآنية وأرسل بها إلى الأمصار الإسلامية حتى بادر الكتاب بنسخها. وأمام طلب الناس للحصول على النسخ التي يكتبها النساخ، أجار الفقهاء بيع وشراء ما ينسخ من القرآن. وهكذا انتشرت نسخ القرآن الكريم، ثم تلاه الحديث النبوي. لتنداح الدائرة فتشمل بقية العلوم والمعارف والآداب.
وأمام هذا الاندفاع لطلب العلم كان لا بد أن تتسع الكتابة وينالها التحسين في الخط، ولما عرفوا صناعة الورق (الكاغد).
ووجدوا استعماله أرخص ثمنا، والكتابة فيه أجود، شاع استعماله إلى جانب القرطاس (ورق البردي) والرق (وهي جلود الحيوانات).
ولقد كانت صناعة الورق ثورة ثقافية بحد ذاتها أدت إلى شيوع المعرفة لدى العرب والمسلمين ومن ثم لدى البشرية فعمت المعرفة وانتشرت بين فئات المجتمع المختلفة.
وقام الوراق بدور الناشر الحديث في استنساخ الكتب بأنواعها المختلفة، وموضوعاتها المتشعبة، حيث أصبحت مهنـة يرتزق منها. واصبحت لهؤلاء الوراقين اسواق ثابتة في المدن العربية الإسلامية، يجد فيها طالب المعرفة ما يحتاج إليه من الكتب الؤلفة أو المترجمة، فإن لم يجده جاهزاً أوصى الوراق بانتساخه وتهيئته.
ولم يقتصر الأمر على رغبة الأفراد العاديين بل تعدتهم إلى السلاطين والحكام والخلفاء الذين كانوا يجلبون الوراقين إلى قصورهم، ويخصصون لهم أماكن فيها، ليقوموا بالنسخ لهم وتوفير ما يرغبون فيه من أنواع الكتب وإيداعها في خزائن قصورهم.
وقد كان عدد الوراقين بعدد الكتب العربية التي تبلغ الملايين والذين قد نجد أسماءهم في أواخر الكتب المنتسخة أو لا نجدها.
ولكن هناك من اشتهر من هؤلاء الوراقين ممن زاول التأليف إلى جانب التجارة في الكتب، مثل ابن النديم صاحب الفهرست وياقوت، البغدادي صاحب معجمي الأدباء، والبلدان.
والبحث عن صناعة الكتاب يقتضي الكلام عن الوراقين وعن أدوات الكتابة، كأنواع الخطوط وتطورها، وأنواع الأقلام وما قيل فيها، والحبر وصناعته، وكيفية إزالة بقعه من الملابس، والتجليد (التسفير) وما يتصل به من النقوش والزخرفة، والدوي (جمع دواة) والمواد المتخذة منها، كالمعادن والأحجار والزجاج وخشب الأبنوس والصندل والليقة وهي القطنة الموضوعة داخل الدواة، وما يحتاجه الناسخ أو (الكاتب) من سكين لبري القلم، أو محراك لتحريك الليفة.
ولما كان الكلام على كل هذه الأمور مما يطول الكتاب، آثرنا الاقتصار على الوراقين، ومواد الكتابة(القرطاس، الرق، الكاغد) وأثر الوراقة في نشر الثقافة والمعرفة. ثم أشهر الوراقين في التراث العربي الإسلامي.
وأخيراً فإن موضوع صنع الكتاب وما يتعلق به من ورق ووراقين جدير بالبحث وإبرازه كوجه من وجوه الحضارة العربية الإسلامية المشرقة إذ بفضل الكتاب العربي تنورت شعوب ونهضت أمم. وبفضل صناعة الورق اهتدت أوروبا إلى المعرفة ونهضت من عصورها الوسطى لتؤدي بها هذه الصناعة إلى اختراع الطباعة التي عمت فائدتها البشرية جميعا.
الأستاذ الدكتور
بدري محمد فهد