المقدمة
إطار البحث وتحليل المصادر
لعلنا لا نعدو جانب الحقيقة اذا قلنا ان دراسة الأقليات سواء أكان في الوطن العربي أَم خارجه قد شغل حيزاً كبيراً من الاهتمام الدولي منذ بدايات القرن التاسع عشر ومازال، اذ ازدادت أهميتها لكثرة المشاكل الناجمة عنها، ولعل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية قد وفرت مناخاً ملائماً في تكوين وتأطير مشاكل الأقليات، فعلى المستوى المحلي (الوطني) دأبت الحكومات لإيجاد الظروف الذاتية والموضوعية لحل مشاكل الأقليات التي تتألف منها شعوبها، لاسيما الحلول السياسية التي تضمن حقوقها وتطلعاتها في الإطار الوطني والقومي، أما على المستوى الإقليمي سعت وبأشكال مباشرة وغير مباشرة الدول المجاورة والتي تنطلق من مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية في اثارة المشاكل بين الاقليات وتنمية روح العداء والتمرد بغية تحقيق اهدافها في تجزئة الاقليم واضعافه او لخلط الاوراق والضغط على الدول المجاورة، اما على المستوى الدولي فهناك دول تتبنى مطاليب الاقليات وتحت مظلة حقوق الانسان ولكنها تهدف من وراء ذلك تحقيق مأرب استعمارية واثارة الخلافات بين ابناء الوطن الواحد عن طريق خلق عوامل التمزق والتخلف بينهم.
ان تفاعل هذه المعطيات (المحلية، والاقليمية، والدولية) قد شكلت في كثير من الاحيان عوامل حاسمة في توجيه واثارة موضوع الاقليات وطرحه في الساحة السياسية بوصفه احدى اهم المشاكل والقضايا التي تقود الى المنازعات والصراع السياسي بين ابناء الوطن الواحد، مما يعزز من الولاءات الفرعية على حساب الولاء للوحدة الوطنية الشاملة، الا ان ما يميز دور الدروز السياسي في سورية عن غيرهم من الاقليات والطوائف هو انهم وقفوا دائماً الى جانب قضايا شعبهم السوري وحدة بلادهم رافضين بأسرار وعزيمة كل محاولات التقسيم والتفتيت التي حاول المستعمرون ترسيخها في المجتمع السوري.
ونظراً لما لسورية من تنوع مجتمعي له تأثيره المباشر وغير المباشر على اوضاعها الداخلية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، لذا جاء اختيارنا لدروزهم ودورهم السياسي موضوعاً للدراسة وامراً له مسوغاته الموضوعية والتي تجعل منه موضوعاً حيوياً جديراً بالدراسة.
وقد جاء اختيارنا للمدة الزمنية من (1920-1946) لأنها اهم وادق واعقد الحقب التاريخية، ليس في سورية فحسب بل في الوطن العربي، لأنها شهدت تغييرا في موازين القوى في العالم، وتصعيداً في زخم الحركة الوطنية وتكويناً في الافكار والتيارات السياسية في الوطن العربي بصورة عامة وسورية بصورة خاصة، وقد مثل عام 1920 بداية لتلك المدة التي ندرسها، اذ شهدت سورية احتلالاً فرنسياً مباشراً هدف الى تنفيذ مخطط في تجزئة وتقسيم سورية داخلياً من اجل بسط السيطرة الفرنسية عليها وعلى جبل الدروز، بينما مثل عام 1946 العام الذي اعلن فيه استقلال سورية من الانتداب الفرنسي البغيض، بفضل مقاومة ابنائها، النهاية لتلك المدة الزمنية.
انطلقت الدراسة من فرضية تناولت امكانية بناء وحدة وطنية في مجتمع متعدد الاديان والطوائف والقوميات، واعتبار الاقليات ظاهرة صحية في الجسد السوري، وعنصر قوة واثراء التجزئة وتفتت، وان تنوع وتعدد الاقليات يسهم في اغناء المجتمع السوري ويعمل على ترصين وحدته الوطنية.
واجهت الباحث جملة من المصاعب اثناء اعداد هذه الدراسة ومنها الظروف الامنية الصعبة التي عاشها بلدنا الحبيب بفعل بعض القوى المحلية والاقليمية والدولية التي ارادت اشعال حرب طائفية بين أَبنائِه، الا أَنّ وحدَة الشعب ووعي أبنائهِ وقبلهما لطف الله (عزول) قد اطفأ هذه الفتنة مما يعطي لموضوع دراستنا اهمية فائقة بوصف التاريخ دروس وعبر، اما الصعوبة الاخرى فتكمن في أن دراسة التاريخ السياسي لأي طائفة دينية تكتنفه الكثير من المصاعب والحساسية ولاسيما في مجتمعنا العربي، ذلك لان مثل هذه الطوائف تتميز بعاداتها وتقاليدها الخاصة التي لا يسمح لأي شخص غريب من الاطلاع عليها، وهذا ما دفع الى اعتذار العديد من الشخصيات الدرزية السورية من ابداء معلومات تاريخية دقيقة للباحث بشأنهم، ويبدو ان عدم استعدادهم لذلك ينطوي تحت مسوغات امنية الأمر الذي يجعل من دراسة الدروز في سورية امرا في غاية الصعوبة والحرج.
تألفت الرسالة من مقدمة واربعة فصول وخاتمة، جاء الفصل الاول فصلاً تمهيدياً تناول الجذور التاريخية للدروز حتى عام 1920، وقد قسم الفصل على اربعة مباحث، جاء الاول ليتناول اصولهم الاجتماعية وعقائدهم ونشأتهم، في حين تم تسليط الضوء في المبحث الثاني على الدروز تحت السيطرة العثمانية (1516-1914)، وجاء المبحث الثالث الذي انصبت دراسته على موقف الدروز من الثورة العربية الكبرى في الوقت الذي شمل المبحث الرابع على موقف الدروز من الحكومة الفيصلية.
اما الفصل الثاني الذي حمل عنوان الاوضاع السياسية الداخلية لجبل الدروز (1920-1927) فقد قسم على ثلاثة مباحث، فقد تم تسليط الضوء في المبحث الاول على دورهم في الاحداث السياسية السورية المتمثلة بانتفاضة اهالي حوران 1920، والاتفاقية الدرزية – الفرنسية التي قادت الى استقلال الجبل، ثم موقفهم من احداث شرق الاردن فضلا عن بدايات المقاومة الدرزية للانتداب الفرنسي عام 1922، والاوضاع السياسية لجبل الدروز في عهد كاربيه حتى عام 1925، في حين تم التركيز في المبحث الثاني على دراسة الثورة السورية الكبرى (1925-1927) مركزاً على دور الدروز فيها، ثم ختم الفصل بالمبحث الثالث الذي وضح طبيعة المعارك الدرزية-الفرنسية معززاً تلك المعارك ببعض الخرائط التي توضح سير المعارك حتى نهاية الثورة السورية عام 1927.
اما الفصل الثالث، فقد جاء تحت عنوان الصراع الدرزي-الدرزي بين الوحدويين والانفصاليين منذ عام 1928 حتى عام 1935، وتمت معالجته بثلاثة مباحث اساسية، تناول الاول منها نشاط الدروز السياسي في سورية إذ بـينّ موقفهم من سياسة فرنسا لتقسيم سورية، وموقف الدروز من الجمعية التأسيسية واستمرار مناهضتهم لسياسة التجزئة بعد حل الجمعية وعقدهم لمؤتمر وادي سرحان عام 1929، في حين تناول المبحث الثاني نشاط الدروز السياسي مبيناً موقفهم من دستور 1930 ودور الانفصاليين الدروز في سياسة بونسو عام 1931، اما المبحث الثالث والاخير فقد عالج الادارة الفرنسية في الجبل من عهد بونسو الى دي مارتيل، اذ تم التركيز فيه على دور الادارة الفرنسية في ترسيم حدود الجبل والتطورات السياسية في سورية عام 1933 واثرها في الدروز فضلا عن الكونت دي مارتيل وسياسته تجاه الدروز.
اما الفصل الرابع فجاء تحت عنوان تأثير الانقسام الدرزي في مجرى الاحداث السياسية في سورية 1936-1946، وقد قسم الفصل على ثلاثة مباحث تناول الاول دور الدروز في الانتفاضة الشعبية السورية لعام 1936، وموقفهم من المفاوضات السورية الفرنسية لعقد المعاهدة لعام 1936 فضلا عن انضمام جبل الدروز للوحدة السورية، في حين تناول المبحث الثاني جبل الدروز بعد انضمامه للوحدة السورية، وموقف الدروز من تعيين نسيب البكري محافظا للجبل وتطور المشكلة الادارية في جبل الدروز فضلا عن اهم التطورات السياسية في محافظة جبل الدروز بعد استلام حسن الاطرش منصب المحافظ، في حين تناول المبحث الثالث الدروز في سنوات الحرب العالمية الثانية، ودور جبل الدروز في مواجهة الازمة الغذائية في سورية، وهزيمة الانفصاليين الدروز وقيام دولة سورية الموحدة.
اما الخاتمة فقد انصبت على ابرز ما توصل اليه الباحث في دراسته من استنتاجات خلال المدة الزمنية المحددة للدراسة.
والله ولي التوفيق