المقدمة
من الحقائق التي كشف عنها التاريخ هو أن الجريمة واقعة لا محالة في كل المجتمعات، ولكن هناك اختلاف من حيث نوع الجرائم وكمها بين مجتمع وآخر، لذلك نرى أن المجتمعات تسعى جاهدة لمكافحة الجريمة وقد تعددت أساليبها في ذلك، والعقاب هو الأسلوب الذي تتخذه جلها للتصدي للجريمة، ولكن كيف تتم مكافحة الجريمة؟ أبالشدة في العقاب أم بالتساهل فيه؟.
إن قلنا بشدته فإننا لن ننجح في مكافحتها ولن نحقق الدفاع عن المجتمع من شرها والتأريخ خير دليل على ما نزعمه، لأن الخوف من قسوة العقوبة لا يردع كل المجرمين، وخاصة في مجتمعنا عندما يظن المجرم أنه يرتكب فعلاً مشروعاً مهما بلغت شدة العقوبة المرسومة لجريمة كما هو الحال في جرائم القتل ثأراً وغسلاً للعار.
وإن قلنا بالتساهل فيه سوف نخلق جواً من عدم الثقة بين أفراد المجتمع والسلطة العامة لعدم قيامها بإقناع الرأي العام بوسائلها في إقامة العدالة، لذلك اهتدت المجتمعات إلى العقوبة السالبة للحرية كوسيلة متميزة في مكافحة الجريمة خاصة بعد أن أصاب العقوبة تطوراً كبيراً في أهدافها وأصبح الإصلاح والتأهيل الغرض الأساسي لها، فهي تجمع بين إرضاء الرأي العام بتحقيق العدالة بالعقاب الشديد، وتحقيق الدفاع عن المجتمع من شر الجريمة عن طريق إصلاح المحكوم عليه وإعادة تأهيله اجتماعياً.
ووقع اختيارنا على بحث موضوع تنفيذ العقوبة السالبة للحرية لأنها من أكثر العقوبات شيوعاً في التشريعات الجزائية المعاصرة، وأغلب المشرعين ومنهم المشرع العراقي قد خصصوها لأغلب الجرائم المنصوص عليها من قوانين العقوبات، كما أن تحقيق أهداف العقاب في الإصلاح والتأهيل يتجسد بصورة أكثر وضوحاً في هذه العقوبة فضلاً عن أن تحقيقها مقرون بالتنفيذ الصحيح لها إذ يتم توجيه العقوبة وتحديد مسارها في تحقيق أهدافها أثناء تنفيذها. وكذلك لحداثة هذا الموضوع في الفقه العراقي بجوانبه الموضوعية والإجرائية وعدم اهتمام المشرع العراقي بهذا الموضوع بصورة عامة وخصوصا ما يتصل بجوانبه الإجرائية إذ أنه عالجها بصورة جزئية.
للأسباب السابقة أثرت البحث في هذا الموضوع متأملاً أن ألفت نظر المشرع لمكامن الضعف في القوانين التي تعالج هذا الموضوع لإعادة النظر فيها لضمان تحقيق أهداف العقوبة وتحقيق الحد الأدنى من الدفاع الاجتماعي. فعندما عزمت على كتابة هذا الكتاب، حاولت جاهداً أن ألم بكافة جوانب الموضوع وأجمعها بين طياته، وقد استقيت مادة الكتاب من كتب علم العقاب وشرح القسم العام من قانون العقوبات ومن كتب الإجراءات الجنائية إضافة إلى استعانتي بمتون قوانين العقوبات والإجراءات والسجون لمجموعة من الدول.
وقد واجهتني ندرة المصادر التي تبحث في الجوانب الإجرائية للتنفيذ وكل ما كتب فيه لا يتعدى التعليق على متون القوانين لذلك ستأتي كتابتي في ذلك الإطار معتمداً على المقارنة بين نصوص بعض القوانين المتيسرة. وسأقسم مادة الكتاب إلى بابين وفصل تمهيدي، ففي الفصل التمهيدي سنتعرف على أنواع العقوبات السالبة للحرية وماهية التنفيذ العقابي وكيفية تطوره. والباب الأول سنخصصه للجوانب الموضوعية في تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، وسوف نوزع مادة هذا الباب على ثلاثة فصول تتناول المتطلبات المادية للتنفيذ في الفصل الأول ونبحث فيه أنواع المؤسسات العقابية والنظم المتبعة فيها وكذلك في الجهاز الوظيفي الذي يعمل على التنفيذ فيها. وفي الفصل الثاني سنتطرق إلى المتطلبات الفنية للتنفيذ متناولين فيه التفريد التنفيذي ومتطلباته والتنفيذ داخل المؤسسات العقابية وخارجها، والتدخل القضائي في التنفيذ ومبرراته وأساسه القانوني واختصاصات قاضي تنفيذ العقوبة فهذه المواضيع ستكون مادة الفصل الثالث.
أما الباب الثاني فسنخصصه للجوانب الإجرائية لتنفيذ العقوبة السالبة للحرية ونبحثها في أربعة فصول فالأول سيكون موضوعه كيفية احتساب مدة العقوبة السالبة للحرية إذا كانت واحدة وفي حالة تعددها وكيفية خصم مدة التوقيف من المدة الأصلية للعقوبة.
وسنقف في الفصل الثاني على تأجيل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية ونبين حالاته الوجوبية والجوازية، وسنتطرق في الفصل الثالث إلى أسباب انقضاء تنفيذها ونتناول فيه انقضاؤه بسبب وفاة المحكوم عليه والعفو عن العقوبة وأخيراً بسبب التقادم.
أما الفصل الرابع والأخير فسنعالج فيه إشكالات تنفيذ العقوبة السالبة للحرية معرجين إلى أسباب الإشكال وكيفية تقديمه وأثره وأخيراً كيفية النظر في الإشكال والحكم فيه.
وسأجعل ما أتوصل إليه من نتائج ومقترحات في خاتمة الكتاب، وسأركن في بحثي لهذا الموضوع إلى الاختصار والإيجاز واكتفي بما هو مهم خشية الإطالة وسأقتصر على الجانب النظري فقط دون التطرق إلى الجوانب العملية في التنفيذ لنفس السبب.
وأسأل الله العون والتوفيق
المؤلف
رجب علي حسن