بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِيْ هُوَ بِالْعِزِّ مَذْكُوْرٌ، وَبِالْفَخْرِ مَشْهُوْرٌ، وَعَلَى السَّرَّاْءِ وَالضَّرَّاْءِ مَشْكُوْرٌ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَاْ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاْهِرِيْنَ.
وبعد…
لا نصَّ أكثر تأويلاً من النّصّ الدّينيّ يليه في ذلك النّصُّ الأدبيُّ ثمّ القانونيُّ، وإنْ كان النّصُّ الدّينيُّ يؤطّرُهُ المقدّسُ أو الخوف من الوقوع في المحذور والمحظور، والقانونيُّ تؤطّره الأحكامُ أو نصٌّ صريحٌ آخر يَلْجِمُهُ، فالنَّصُّ الأدبيُّ يؤطّرُهُ الخيالُ الّذي لا حدودَ لجماحه. هذا التّأويلُ غيرُ المتناهي والّذي لا حدودَ له في النَّصِّ الأدبيِّ جعلنا نطعنُ ببراءتِهِ، لأنّه ناتجٌ عن اجتهاداتٍ واشتهاءاتٍ أغلبها مؤدلجة، من جهة، وعن حقيقةٍ مؤجلةٍ وقتَ تلقيها من جهة أخرى.
ودولة العربِ ـ وفيما بعد المسلمين ـ حالها حال تلك الدّول والإمبراطوريات تشكّلت لها منظومةٌ تسيّرها الوجهة الّتي تخدم مصالحَها وتقوّي نفوذَها وقد اعتمدتْ على النّصِّ الدّينيِّ اعتمادًا مطلقًا وجيّرتْ له النِّصوصَ الأخرى سواء أكانت أدبيةً أم قانونيةً هذا إذا ما عَلِمْنَا أنَّ النّصَّ القانونيَّ هو نصٌّ شرعيٌّ في الأصلِ لأنّ الدّولة إسلاميةُ الهُويةِ.
استغلتِ الدَّولةُ في بناءِ منظومتها النّصَّ الأدبيَّ من خلال البلاغةِ الّتي أسهمتْ إسهامًا كبيرًا في رسم الملامح الثّابتةِ لتلك المنظومة ولاسيما في قضايا معينة كانت محركاتُ البحث فيها دينيةً تخدم السّلطةَ، مثل قضية الإعجاز، وقضية اللفظ والمعنى، وقضية محنة “خلق القرآن” … إلخ.
هذا الاستغلال للنَّصِّ الأدبيِّ من قبل الدَّولة قابله استغلال من جهة أخرى، وهو استغلالُ الجماعاتِ المعارضةِ لهذا التّأويل الأحادي الذي غيّبَ الآخرين، فلا تكاد ترى صورةً لهم إزاءَ الصُّورة الّتي رسمتها الدَّولة لهويتها الحضارية ومنظومتها الفكرية، ولم تكتفِ عند تغييبها وإنما مارست قمعًا لم يكن أكثرُهُ قمعًا ناعمًا وإنّما كان قمعًا حادًّا تجاه أصحاب هذه الصورة.
والمقصود ببلاغة المقموعين هو الفكر الّذي رام المقموعون توصيله إلى قواعدهم الّتي ينتمون إليها وطرائق هذا التوصيل، إذن فدراستنا تنطلق باتجاهين متوازيين صناعة الفكر “البلاغة” منظومة وهُوية، وتوصيله إلى أهله، فنحن إذ ندرس بلاغة المقموعين ندرس البلاغة المقموعة من جهة وكذلك ندرس الطّرائق الّتي وصلت بها هذه البلاغة إلى أهلها أولًا، وإلى الآخر إقناعًا ثانيًا. ثم بعد ذلك الحديث عن حفظ هذه المادة الكامن في طرائق توصيلها والأساليب التي استعملها البلغاء المقموعون في حفظ هذا التّراث، على الرّغم من اعترافنا، متألمين، بضياع نصيبٍ كثيرٍ منه جرّاء عملية القمع نفسها.
ولا ندّعي أنّ موضوع دراستنا بكرٌ كما لا ندّعي أنّها قتلت بحثًا واستهلكت دراسةً، وإنما حقيقة الأمر أنّ الكثير ممّن أرّخوا وكتبوا في الأدب والبلاغة مرّوا على بعض الأفكار الّتي هي من مشاغل بلاغة المقموعين إلا أنّهم ادرجوها تحت عنوانات مختلفة في البلاغة الرّسميّة، وستكون هذه الحقيقة ذات وجهين؛ الوجه الأول: كثرة المصادر العامة، والوجه الثاني: صعوبة استخلاص المعلومة من هذه المصادر إلا بالبحث والتنقير الدؤوبين.
لقد وزّعت هذه الأطروحة على تمهيد وبابين لكلِّ بابٍ فصلان بمباحث ومطالب؛ وكان التّمهيد يتحدّث عن القمع لغةً واصطلاحًا، ثمّ في الأسباب الّتي سبّبته، وهي أسباب سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة، ثمّ أسباب أدبيّة.، بعدها تناولنا المجموعات المقموعة، وختمنا التّمهيد بأنواع القمع.
بعدها كان الباب الأول الذي يحمل عنوان “تنظيرات في بلاغة المقموعين” وكان فيه فصلان؛ الفصل الأوّل عنوانه “مفهوم البلاغة الرّسميّة والبلاغة المقموعة” وفيه مبحثان؛ المبحث الأوّل: “مفهوم البلاغة الرّسميّة”، والمبحث الثّاني والّذي عنوانه “مفهوم البلاغة المقموعة” وفيه عرض لبحث الدّكتور جابر عصفور “بلاغة المقموعين” ثمَّ التّعريف ببلاغة المقموعين. ثمّ الفصل الثّاني من الباب الأوّل؛ وهو “أجناس البلاغة المقموعة ومنظّروها” وهو في مبحثين؛ المبحث الأوّل يتحدّث عن “أجناس البلاغة المقموعة”، والمبحث الثّاني: “منظرو بلاغة المقموعين”.
وأما الباب الثّاني وعنوانه “تطبيقات بلاغة المقموعين ـ الاجراءات” فهو يقع في فصلين اثنين؛ الفصل الأوّل يحمل عنوانَ “بلاغة المقموعين التّقويّة” وفيه مبحثان، المبحث الأوّل: “بلاغة المقموعين التّقويّة ـ بيان الاعتبار، وبيان الاعتقاد”. وينقسم على أربعة مطالب؛ المطلب الأوّل يتحدّث عن الصّمت، والمطلب الثّاني عن النِّصْبَة، والمطلب الثّالث عن “الإشارة” والمطلب الرّابع عن “الوحي”. ثمّ المبحث الثّاني وهو “بلاغة المقموعين التّقويّة “بيان العبارة، وبيان الكتاب”. والحديث فيه عن “اللحن” وهو المَيل الذي يقدح الألباب للغوص على المعنى وكشفه، وقد قُسّم على ثلاثةِ مطالب؛ المطلب الأوّل: “اللحن بالمعنى” وهو الكناية والتعريض، والمطلب الثّاني” “اللحن باللفظ” وهو التّورية واللُّغز، والمطلب الثّالث: “اللحن بالرّمز” وهو الرّمز والكتابة الباطنة. ثمّ الفصل الثّاني من الباب الثّاني وهو “بلاغة المقموعين التّوصيليّة “الإقناعيّة” وهو سياسة البلاغة”. تحدّثنا في مقدمته عن “سياسة البلاغة أشدُّ من البلاغة” ثم قسّمناه على مبحثين اثنين؛ المبحث الأوّل: “سياسة البلاغة في الشّعر”، والمبحث الثّاني: “سياسة البلاغة في النّثر” وهو في مطلبين اثنين؛ المطلب الأول في “النثر الشّفاهي”، والمطلب الثاني في “النّثر الكتابي”.
ثم ختمنا دراستنا بخاتمة أجملنا فيها بعضَ أهمِّ نتائج البحث، وتلوناها بقائمة المصادر والمراجع الّتي اعتمدتها الدّراسة، وبعد ذلك كتبنا ملخصًا باللغة الإنجليزية للدّراسة.
ربما لا يكون الحديث في هذه الدّراسة بمنهج واحد من البداية حتى النّهاية، ولا غرو، فإنّا نسير بشعابٍ كثيرة وطرق من مذاهب القول والتّفكير أكثر، فربما انطلقنا من المنهج الأدبيّ إلى التّاريخيّ ثمَّ اللغويّ، ثم نتكلّم في البديهة ونتحول إلى الجدال والمجادلة والسّجال، ونعرّج بعد ذلك إلى أسلوب المؤرخ، وهذه هي طبيعة هذه الدّراسة الّتي تنقسم على نهجين كبيرين فيها، وإنْ اتّصلا في الأصل، بين نهج في التنظير ونهج في الإجراء، كذلك لمساحة هذا البحث الزّمانية المترامية على ستّة قرون، ثمّ الجماعات المختلفة الّتي اسهمت في انتاجه.
وقد جاء الإجراء مقدّمًا في العنوان ومن ثمّ التنظير تاليًا له “من الإجراء إلى التنظير” إلا أنّه في الدراسة صار عكس ذلك والسبب هو أنّ الظاهرة تتشكل أول الأمر ثمّ بعد ذلك ينظّر لها وهذا ما حصل فعلًا مع بلاغة المقموعين التي تشكّلت معظم فنونها أول الأمر ولاسيما البلاغة التقوية وبعض أجناسها الأدبية ثمّ بعد ذلك، نهض جملة من البلاغيين للتنظير لهذه الفنون والأجناس، هذا التنظير الذي كان أغلبه مصاحبًا للتطبيق “الإجراء”. فمن حيث الأسبقية سبق الإجراءُ التنظيرَ، ولكن من حيث دراستنا لها علينا أنّ نعرّف بها من خلال التنظير ثم نطبّق هذا التنظير على ما بين أيدينا من نصوص أدبية كانت إجراءً لها في نظر مؤلفيها.
كانت المادة الّتي اعتمدت عليها في تنظيرات بلاغة المقموعين وتطبيقاتها، على حدٍّ سواء، كتبًا، مثل: “كليلة ودمنة” والأدبين “الكبير والصّغير” و”رسالة الصّحابة” وهذه جميعها لابن المقفّع مع “رسائل إخوان الصّفاء وخلّان الوفاء” ولاسيما رسالة “الحيوان” مع “مقامات الهمذاني” وكتاب “ألف ليلة وليلة” و”رسائل الخوارزمي” ولاسيما رسالته إلى “الشّيعة”، وكان أوفرها نصيبًا في التّنظير والتّطبيق الكتاب الّذي اعتمدت عليه وجعلته وجهًا لبيان المقموعين وهو كتاب “البرهان في وجوه البيان” لابن وهب الكاتب، بطبعتيه “البغدادية” التي حققها الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثي وهذه النسخة اعتمدت عليها كثيرًا لذا لم أذكر محققيها عند ذكرها في الإحالة، و”المصرية” التي ذكرت اسم محققها معها للتمييز بينهما، والّذي دفعني لذلك السّبب الكامن وراء تأليفه، إذ كان ردًّا على كتاب “البيان والتّبيين” للجاحظ الّذي يراه ابن وهب قد اختطف البيان العربي وجعله في خدمة المنظومة الرّسميّة، ثمّ ما لهذا الكتاب من ميّزات في التّبويب والبحث والجدة والطّرافة والطّرح أيضًا ما يجعله مؤهّلًا لمثل هذه المهمة.
كانت جزئية (لا براءة للكلمات) هي الأساس الّذي انطلقت منه منهجية الدّراسة، فلا براءة لكلمات أسست لمنظومة رسميّة ما فتأت تمجّد السّلطان الظّالم وإنْ بَنَتْ مقدماتها على قواعد صحيحة إلا أنّها انحرفت في التّطبيق، كما لا براءة لكلمات انطلقت للإقناع وقت كانت سلطة الكلام ثم أصبحت أيديولوجيا وقت صارت كلام السّلطة، لا براءة للتّقيّة كونها تقيّة تُظْهر عكس ما تبطن، نحن لا نريد التّشكيك هنا في العقائد الرّاسخة وإنّما نحن نحاكم الكلمات الّتي تُظهر عكس ما تبطن، إذ لطالما كان المعنى الحقيقي مؤجّلًا أو أنّه ليس ما يُعلن عنه على أقل تقدير، فالحقيقة دونها قناع. لذا ترانا نقف موقفَ الشّاكّ في الكثير من النَّصوصِ لا من حيثُ صحة سندها لا وإنّما من حيث الدّافع الّذي انطلقت منه، فالجذور الأيديولوجية للنّصوص كانت وراء النّصّ ومادته، لذا نحن نبحث في نصوص مؤدلجة وإنْ بدت بعضها تأخذ طابع الإقناع فلا معنى للإقناع الّذي مارسه جماعة المعتزلة وكان المحك فيما بعد سدانة دين الدّولة لمَّا أصبحوا هم المنظومة الرّسميّة لها فتحول إقناعهم إلى أيديولوجيا قامعة!.
ربّما تضافرت الكثير من المناهج النّقديّة في هذه الدّراسة، فلم تخلُ الأطروحة من المنهج الوصفي، كذا لم تخلُ من المنهج التّحليلي، والمنهج التّأويلي، كذا لم تعدم من نفحات المنهج التّفكيكي، وحتى المنهج الثّقافي كانت له الحصة الأوفر في تشكيل هذه الدّراسة، ويصبح من الاتّكال بمكان لو قلنا إنّ دراستنا قامت على المنهج التّكاملي، على الرّغم من أنّ تضافر هذه المناهج وانصهارها معًا يولد هذا المنهج الفضفاض.
لا أدّعي أنَّ ما كتبناه قد بلغ الكمال فالكمال وحده لله ولكتابه العزيز، ولكنّا نقول: لم ندّخر جهدًا في أنْ نبلغ بهذه الدّراسة مبلغًا يليق بها، فهي تستحق منا أعز ما عندنا وأجوده.
وأخيرًا نسأل الله العفو والصّفح والرّحمة والمغفرة، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَاْلَمِيْنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ أَجْمَعِيْنَ مُحَمَّدٍ وَآلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِيْنَ الطَّاْهِرِيْنَ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا.
الباحث
