المقدمة
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء، و خاتم المرسلين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم ، و على آله و أصحابه أجمعين. . . .
أما بعد:
ففي لفيف الغموض الذي يعتري أدب العصر الوسيط،في شقيه الشعري والنثري، يسعى قلة من الباحثين إلى تبديد ضباب ذلك اللبس حول النتاج الأدبي الذي تمخض من رحم تلك المرحلة، بالبحث تارة، و التحقيق تارة أخرى. ويبدو ان سمتي التخلف والضعف، كانتا ملازمتين لكثير من تصريحات الدارسين لها التي نظرت إلى الأدب نظرة قاصرة، وإنه لم يعد له وجود، لأنه عصر الانحطاط، أو مرحلة ما بعد الاحتلال، او عصر وسيط. إن تلك المحصلة البحثية قد كشفت عن انقطاع الأواصر الثقافية، والأدبية بين العصور، فيما سبقها من مد ثقافي وإبداعي، بالاعتماد على ربط السياسة بالادب، وانتهائه بنهاية بني العباس، وهو أمر دفعنا إلى البحث عما يخالف تلك الحقيقة، ويساند الحقبة بضمها للأدب في كثير من ثناياها، وأن السياسة بمؤثراتها المختلفة قد كانت من الدوافع المهمة لقول الشعر بمختلف أغراضه.
ويبدو أن النتاجات الشعرية التي حصلت عليها بالبحث والتحقيق، كانت الفيصل القاطع لتلك الحقيقة، وقد شجعتني لأخوض غمار البحث في أرضيتها الخصبة، إذ تفاعلت فيها كثير من العوامل، والمسببات من كوارث، وحروب، ومواقف اتصلت بحياة الشاعر ونفسيته، لتتمخض منها أهم الموضوعات الإنسانية الألصق بالمجتمع العربي.
لقد أردت الوقوف على مرحلة تاريخية لم يتناولها أكثر الباحثين، في ظاهرة نبعت من ملابساتها السياسية، وجوانبها الاجتماعية، والفكرية، فكان شعر الغربة والحنين، من بين تلك النتاجات الشعرية البارزة في تلك المرحلة، والذي عبر عن أزمة الشاعر في عصره. فكان موضوع الغربة والحنين في شعر القرنين السابع والثامن الهجريين في العراق، عنوانا لكتابي ، وبعد جهد طويل من البحث، والتقصي، و الحوارات الثقافية حول جدوى النتاجات والموضوعات في تلك المرحلة، ومدى احتوائها على مضامين الغربة والحنين، مع كبار الأساتذة منهم د. ناظم رشيد شيخو، و د.عبد الرحمن كريم اللامي، و د.أدهم حمادي النعيمي، ود.عدنان رجب، و د.إسراء خليل الجبوري. حتى استقر الحوار فكرة، وانتهى موضوعا للكتاب.
لاشك في أن موضوع الغربة والاغتراب والحنين، ليس من الموضوعات الجديدة في ميادين البحث، فقد سبق أن وقف الباحثون عليه، وكانت لهم آراء تكشف عن أهمية هذا الموضوع وأصالته. منها الاغتراب في الشعر الجاهلي، للباحث أحمد صالح الزعبي، 2004م.، والغربة في العصر الإسلامي، للباحثة زينب كامل، 200م، والغربة و الحنين في الشعر العربي في الأندلس، للدكتور أحمد حاجم سنة 1983، والغربة والحنين في شعر العصر العباسي الثاني (334-656هـ) للباحثة أسماء إبراهيم سنة 1999م. وغيرها من الدراسات الجادة التي كانت في معالجتها لموضوع الغربة والحنين مفتاحا عظيما لمعرفة الأسس والجوانب التي اعتمدت في رصد تلك الظاهرة، فكانت دراستنا متمة لأدب العصر العباسي الثاني والأخير في قرنيه السابع والثامن الهجريين وتحديده في العراق، ومحاولة الكشف عما أغفل فطريا من دراسة موضوع الغربة والحنين في جوانب أخرى كان لنا الحظ الوافر في الوقوف عليها.
فصيرت الخطة على وفق رؤية خاصة، بنهج يغاير تقسيم الموضوع على (غربة وطنية، وغربة نفسية، والحنين)، فارتأيت صب النتاجات الشعرية بصورة جديدة، فدرست موضوع الغربة والحنين وفقا للغرض الشعري، إيمانا بأن مصطلح الغربة والحنين، مصطلح لصيق بالغرض، أو الموضوع الشعري، فكان ذلك دافعا إلى رفض تجزئة موضوعي الغربة والحنين ودراستها كلا على انفراد خاص في فصول، وعناوين جانبية، إنما جمعت شتات الموضوعين في عنوان رئيس، ثم انطلقت به بعناوين جانبية تناسب الغرض، وعالجت حيثيات موضوع الغربة والحنين من عناصر نفسية (كالوداع، والرحيل، والفراق، واللجوء، والغربة النفسية، والحنين) من خلال الغرض الشعري، ومسوغات نظم الشاعر له، فكانت الغربة الوطنية ذات علاقة بالغزل، والرثاء، والمديح في رحيل الشاعر بعيدا عن الأحبة ولجوئه للممدوح، وفي بعض جوانب الزهد، وغرض التصوف، والمدائح النبوية بين عناصر الغربة الوطنية من (الوداع، والرحيل، والفراق، واللجوء).
وعالجت الغربة النفسية التي كانت بمضمونها جزءا لا يتجزأ من مفهوم الاغتراب، من خلال بعض الأغراض التي يتوجب نظمها حالة خاصة من الاعتزال، والانكفاء النفسي، ومنها غرض الهجاء، وغرض الخمرة، والتصوف. أما الحنين فقد وجدنا أن دراسته توجب الاندماج مع حيثيات الغربتين السابقتين لتداخل مضمونه العاطفي، والوجداني مع مشاعر الشاعر في نظمه لجميع الأغراض الشعرية، وبشكل متفاوت بين الشوق لرؤية الأحبة بمختلف شخصياتهم الحياتية، والدينية الأحياء، والأموات، وبين الحنين للعطاء المبذول من الممدوح، وبين حنين للسكينة الذاتية، و الشفاعة الروحية للخلاص من الذنوب والآثام يوم الخلود.
فكانت خطة الدراسة لموضوع الغربة والحنين ضمن المعاني والأغراض الشعرية الأخرى. لذا كان منهجنا قائما على مناهج متعددة بين الموضوعي، و الوصفي، والتحليلي، اعتمدته في دراستي للموضوع، و في رصد اللوحات الفنية بالكشف عن منابع الجمال، ولإعطاء النص تلك القيمة الأدبية والواقعية، فقد اعتمدت على المنهج التاريخي في ملامسته لحقيقة منابع شعر الحقبة. وبهذا المنهج والتقسيم، اقتضت مادة البحث أن تكون على ثلاثة فصول، يسبقها تمهيد، و تعقبها خاتمة، و جاء التمهيد مدخلا مهما للموضوع في قراءة لحروف اللغة، والاصطلاح لمفهومي الغربة والحنين وجذرهما اللغوي والاصطلاحي، وما تشابك منها وما اتصل، مع التنويه بجذور الغربة والحنين في الشعر العربي، وصولا إلى الحقبة المنصرمة، في رؤية حقيقية وجادة للأرضية التي نمت في رحمها تلك الموضوعات.
و كان الفصل الأول بعنوان ( الغربة والحنين من خلال الأغراض الاتباعية)، و قد قسمته على خمسة مباحث، معتمدة اإحصائية تقوم على الكم، والتناول في الترتيب، فكانت الأغراض التقليدية ذات النزعة المادية الدنيوية، من (غزل، ورثاء، ومدح، وهجاء، وخمرة)، وهي أغراض قد خرجت في معالجتها عن الأغراض الأخرى في الفصل الثاني.
أما الفصل الثاني فقد كان بعنوان الغربة والحنين في الأغراض الدينية، وقد ارتأيت دراسة الأغراض ذات النزعة الدينية، التي عالجت موضوعات الغربة والحنين في رؤية جديدة وروحية، تختلف عما هو متداول في الأغراض التقليدية المذكورة آنفا، فكان المبحث الأول منصباً لدراسة غرضي الوعظ والزهد، وكان المبحث الثاني في غرض التصوف، ورموزه، والرؤى الروحية مختلفة عند الصوفية، أما المبحث الثالث فقد انصب على المدائح النبوية، ليكمل المبحث الرابع موضوع المدح الديني في مدح آل البيت.
أما الفصل الثالث فقد كان منصبا في بحثنا على الدراسة الفنية، التي جاءت على ثلاثة مباحث، تناولت في المبحث الأول اللغة، والتراكيب وقد جاء المبحث الثاني بعنوان الصورة الشعرية، التي تمثلت بالتشبيه، و الاستعارة، و التضاد، والكناية، وغيرها من الصور الحسية، وكان المبحث الثالث الموسيقى الشعرية والايقاع في دراسة للصوت، وعلاقته بالجانب النفسي، و درست فيه الموسيقى الخارجية المتمثلة بالوزن، و القافية، و الموسيقى الداخلية، و تمثلت بالتكرار بأنواعه، والجناس
بأنواعه، و رد العجز على الصدر، والتدوير، و ختمت الموضوع بخلاصة دقيقة لأبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة، و تبعتها بقائمة المصادر و المراجع التي اعتمدت عليها في دراستي، و ملخص باللغة الانكليزية.
ولتوثيق الأمانة العلمية في الكمية الأدبية الملحقة بالتراجم، والتي هي العمود الفقري للأي كتاب ، سعيت للوقوف على كثير من الكتب، وعلى وفق ما تشير اليه قائمة المصادر والمراجع في وقفة جدية للحصول على المادة العلمية فحسب وبعيدا عن المبالغة في اغناء القائمة بتلك الأعداد من المصادر، فكانت رحلة الحصول على المصادر صعبة، ولاسيما غير المحقق منها، وهو أمر أخذ من وقت الأطروحة الكثير، للوقوف على حصيلة تامة و دقيقة، وأرى أن سعيي للحصول على كتاب عقود الجمان لابن الشعار الموصلي بتحقيق كامل للأجزاء من د. كامل الجبوري، يستحق مني أن أقف أمامه بإعجاب وفخر لتجشمي المصاعب، والأهوال للحصول على الكتاب، والإفادة من التراجم التي فيه، فاستعنت بكل المصادر والكتب التي تعود أو تنسب أغلب أشعارها إلى ابن الشعار في عقوده المخطوطة، حتى أرجعتها إلى الكتاب الأم بعد زمن وجهد كبيرين.
وارتأيت منهجا خاصا دقيقا في المدة الأدبية وتراجم شعرائها، بإزالة اللبس بإخراج كل ما يشوب عملنا الأدبي، فتم إسقاط أكثر الشعراء المغمورين، ممن افتقرت نتاجاتهم الأدبية، ملامح الغربة والحنين في إحصاء مبني على أسس مهمة، هي:
1-لقد اعتمدت في رصد النتاجات الشعرية ونسبها الصحيح إلى البيئة العراقية، فدخل التصنيف الشعري من كان عراقيا في النسب والولادة، والنشأة والتعلم، ويبقى عراقيا حتى لو سافر، أو هاجر، بقصد التعلم، او التوطن، أو الاستقرار، بعيدا عن موطنه حتى مماته لأسباب معاشية أو سياسية، ومنها فقد استثنيت الشعراء من أبناء الجند من الموالي، والمماليك من الأتراك، و ممن ترجع أصولهم إلى غير العراق، لتكون النصوص الشعرية عراقية بحتة، ولشعراء عراقيي الأصل .
2-التحقق من عراقية الشاعر بتتبع خطوات حياته، بالوقوف على أهم أخباره، و آثاره، واتصاله بأهم الأعلام، وهو أمر أدعى إلى عدم وقوفنا على كثير من الشعراء المشهورين ممن لم تنطبق عليهم قواعد الاحصاء، كالشاعر شهاب الدين السهروردي صاحب العوارف والمعارف، وعمه الشيخ أبي النجيب عبد القاهر، على الرغم من نشأتهما ووفاتهما ببغداد سنة 632هـ، أو غيرهم من الشعراء ممن لم ترد ظاهرة الغربة والحنين بمضامينها بشعرهم وبكمها الجلي العاطفي.
3- قسمت هذه الكمية الشعرية على أقسام عدة لاختلاف الموضوعات، ومعالجات الشعراء، و طرائق تعبيرهم في الأغراض التي كانت بدورها مختلفة تماما في تعبيرها، وحسيتها ليس بالغربة والحنين فحسب، وإنما باتجاهات عدة. والتي خرجنا بحصيلة جيدة من النتائج بتلك التوجهات والنتاجات الشعرية.
لقد دفعنا الحرص على ترصين المادة الأدبية، وانتسابها لهذه المرحلة (القرنين السابع والثامن الهجريين) إلى التدقيق في تاريخ الوفاة، ومناسبتها مع العطاء الشعري، فكانت سنة 605هـ الفاصل لذلك اللبس والإشكال في عمر الشاعر سبب رجوعنا هو تحاشي وقوع ظاهرة الخرف والكبر في حياة الشاعر، فضلا عن أن أغلب الشعراء، قد ينفد عطاؤهم الأدبي في أواخر حياتهم، مما يؤدي إلى قلة النتاج الشعري. فكان استقصاؤنا دقيقا للشعراء لا يخلو من عناء شديد، وحرص على إخراج من شكك في وفياتهم، أو أصلهم العراقي، ليتهيأ لنا الكثير من النماذج الصالحة للدراسة التي لا هوان فيها.
لقد أزاح هذا التصنيف عناء البحث والتتبع من القارىء، وكشف عن فهم خاص، ودقيق من الباحثة على وفق أسس جديدة في البحث، و إني سعيت إلى نفض الغبار عن كثير من تراجم الشعراء والتعريف بهم، في تلك المرحلة، والسعي لضمهم إلى نخبة الشعراء من المغمورين، و تركت الوقوف على غيرهم، لخلو شعرهم من تلك الظاهرة، أو كانت وفاته قبل سنة 605هـ .
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الغربة والحنين في شعر العصر الوسيط -العراق انموذجا (دراسة موضوعية وفنية)
$30.00
عدد الصفحات: 426
سنة الطبع: 2017
نوع التجليد: كرتونية
رقم الطبعة: 1
لون الطباعة: ابيض
القياس (سم): 17×24
الوزن (كغم): 0.725
الباركود: 9789957184315
| الوزن | 725 جرام |
|---|---|
| الأبعاد | 17 × 24 سنتيميتر |
رمز المنتج:
978-9957-18431-8
التصنيف: اللغة العربية و آدابها
الوصف
منتجات ذات صلة
الأنواء الأندلسية في الشعر والنقد
اللغة العربية – دراسات في اللغة ونحو و الأدب
الوجيز في قواعد اللغة العربية والإملاء
تدريس اللغة العربية في ضوء الكفايات الأدائية
$20.00
تعلم النحو والإملاء والترقيم
$17.50
دانا وطوق النرجس
شعر الجهاد الشامي في مواجهة الصليبيين
$17.50
