مقدمة الكتاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى صلاة، وتسليما متلازمين إلى قيام الساعة، وبـعد:
الحمد لله أول كلمة في قرآننا الكريم أعجزت البشر في ثوابها، وحيرت الملائكة في كتابتها؛ تتكون من ثمانية حروف، والجنة لها ثمانية أبواب، من قال الحمد لله إيمانا، واحتساباً، دخل الجنة من أبوابها الثمانية بإذن الله.
نحمده تعالى أن جعلنا موحدين مسلمين، ونشكره تعالى أن هدانا إلى كلمة التوحيد بأنواعهـا الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء، والصفات. نتذلل بها خشوعاً، وطاعة، وعبادة، ونتقرب إليه بذكر اسمه الأعظم لا اله إلا الله، الواحد الذي لم يلد، ولم يولد. وندعوه به قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبنا؛ فلا حمد إلا له سبحانه، ولا عقيدة إلا توحيده. نعوذ بالله من كلمة الشرك، وعقيدة الكفر نكرهها كما نكره أن نقذف في النار. جعلها الله للمشركين الكافرين بوحدانيته من أهل الكتاب، والمشركين على حد سواء، مصداق قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) البينة: ٦
. إن عقيدة التثليث أقامها أرباب الكهنوت المسيحي النصراني على دعائم، وركائز واهية واهنة. والله تعالى يقول:( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُو)العنكبوت: ٤١
إن عقيدة التثليث صاغها أصحابها ضمن عبارات الغموض، ومترادفات التناقض، وألفاظ التعامي عن حقائق التوحيد الإلهي مما جعلها تتصادم تماماً مع بداءات العقل السوي، ومعالم المنطق السليم.
إن عقيدة الثالوث المقدس تؤصل الذات الإلهية ضمن ثلاثة: الله الأب، والله الابن، والروح القدس. وهي ثلاثة أقانيم، وهي في نفس الوقت جوهر واحد. وثلاثتها تسمى المسيح.
ثلاث ذوات إلهية متمايزة، وهي واحدة. هذا هو توحيدهم، وبعقيدتهم هذه يزعمون أنهم موحـدون.
إن باباوات المسيحية يمنحون بركات عقيدتهم الثالوثية في ساحة القديس بطرس في روما على أتباعهم صباح كل أحد، وهم لا يؤمنون بالله أحد. فهذه أولى تناقضاتهم حيث تعجزهم هذه عن تبرير، أو تمرير مقولتهم في ثالوثهم المقدس. ومهما ساقوا لها من أدلة، وبراهين أضحت في حد ذاتها حججاً على عقيدتهم، وليست حججا لها، وقادتها إلى أدنى مؤشرات عدم التسليم، ووضعتها في أعلى درجات سلم عدم القناعة، والتصديق، وعدم الفهم، والإدراك.
وإثراء لعقيدة ثالوثهم المقدس يحاول أرباب الكهنوت المسيحي النصراني، ومنذ القدم أن يغرسوا جذور تناقضاتهم العقدية في دائرة الإكراه العقلي، ومحيط الإلزام الفكري؛ قاصدين فرضها على العقل البشري فرضاً كقضية عقدية فكرية لا غنى عنها، ولا شية فيها. وبها تتحقق سعادة الإنسانية في الدنيا، والآخرة كما يزعمون.
إننا لا نبالغ لو قلنا: إن المنطق اللاهوتي المسيحي النصراني ـ وهو يدعم فلسفته العقدية بشتى وسائل الفكر، وأساليب الإقناع ـ يقيم تناقض عقيدته التثليثية على أسس من الحجر على العقل، والغلق على الفكر، والغموض في الفهم، وعلى ركائز القسر، والإجبار، والإكراه، ودون أي انفتاح على مفاهيم المناقشة، والفهم، والاستبيان؛ لأن عقيدة التثليث النصرانية لا تقبل بل، ولا تسمح بذلك، ولأن ذلك ـ على حد زعمهم ـ يعتبر خروجا على تعاليم ربهم يسوع المسيح.
وبهذه الأسس، والركائز، والمفاهيم، وبهذا المنطق العجيب حكمت المسيحية أتباعها، وأقنعت النصرانية شعوبها بتعاليمها، وارتكبت أفظع الجرائم الفكرية، والجسدية، والجنسية، والمالية بحق أتباعها، والإنسانية كلها. وهذا ما تجلى واضحاً في أوروبا، وفيما عملته محاكم التفتيش في القرون الوسطى بحرق الناس، والعلماء، وقتلهم إذا ما تجرؤا، أو خرجوا على تعاليم عقيدة التثليث النصرانية.
ومن العجب العجاب أن يدعم المنطق اللاهوتي تناقضاته العقدية بمبررات واهية، قسرية، ويؤصلها ضمن نصوص يزعم النصارى أن المسيح “علية السلام” قالها، أو تفوه بها، وهو منها براءة كبراء الذئب من دم يوسف.
ومن الغريب أن يستطرد هؤلاء النصارى في افتراءاتهم بالاعتقاد أنهم استطاعوا بهذه النصوص المنسوبة إلى المسيح، والتي تفتقد إلى مصداقيتها في كل لحظة أن يوفقوا بين التثليث الإلهي المقدس، وبين الوحدانية الإلهية الحقة.
والحقيقة التي لا مراء فيها أنهم بافتراءاتهم، وادعاءاتهم العقدية الثالوثية يقلبون موازين الحاسوب الآلي في الترقيم، والتعديد، والرياضة، والحساب؛ وفي نفس الوقت يعطلون معايير العقل في الفهم، والتدبر، والاستيعاب، والإدراك.
عقيدتهم الثالوثية تقـتضي وجود ثلاثة أرباب: الرب الأب، والرب الابن، والرب الروح القدس، وثلاثتهم رب واحد.
وهم ثلاثة آلهة، وفي نفس الوقت اله واحد.
أقانيم ثلاثة في جواهر متعددة، وفي نفس الوقت هي أقنوم واحد بجوهر واحد.
إن تناقض عقيدة الثالوث المقدس أضحى فهمه، واستيعابه صعباً على العقل البشري، ومستحيلا حتى بالنسبة لعقول بعض علماء النصرانية أنفسهم، وهم يقرون بهذا التناقض؛ والقاعدة المعروفة تقول: الإقرار حجة على المقر.
يعبر القس النصراني “ج.ف.د.ي جروث ” عن ذلك التناقض في كتابه: “تعاليم الكاثوليكية”، وبالحرف الواحد: «إن الثالوث المقدس هو سر الأسرار بكل معنى الكلمة، والعقل وحده لا يستطيع إثبات وجود الثلاثة في إله واحد، لكن الوحي علمنا إياه. وحتى بعد أن عرفنا بوجود سر من الأسرار، فإنه يستحيل على العقل البشري أن يفهم كيف تتحد ثلاث ذوات في طبيعة إلهية واحدة».
وتعترف الموسوعة الكاثوليكية – المعترف بها رسميا في أوساط الكنيسة النصرانية – بصعوبة فهم، واستيعاب عقيدة التثليث حيث ورد فيها ما نصه: «نجد من الصعب في النصف الثاني من القرن العشرين أن نقدم تفسيرا واضحاً، وموضوعيا لأصل سر الثالوث المقدس، وتطوره المذهبي، وتفسيراته اللاهوتية. إن مناقشة الثالوث المقدس تمثل ظلا من الغموض غير المستقر سواء كانت على مستوى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أو غيرها. وهناك اعتراف من جانب علماء الإنجيل بأنه لا يجب الحديث عن ثالوث العهد الجديد – الإنجيل – دون أن يكون المتحدث مؤهلا لذلك».
إن أرباب الدين المسيحي يقرون أن التثليث سر من الأسرار، وعلى العقل أن يؤمن به إيماناً أعمى، وعلى حد زعم أحد فلاسفتهم: “أن المهم بالنسبة للمسيحي ليس أن يفهم سر الثالوث، وإنما في أن يهتدي به قلباً، وقالباً”.
وهكذا تفرض عقيدة الثالوث المقدس تناقضاتها على العقل، والمنطق، وبكل الوسائل، والأساليب، ولو في غياب المسيح “”؛ ولكن باستثناء أسلوب الإقناع؛ مصداق قوله تعالى ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)سورة المائدة -آية 73.
إن العقيدة المسيحية النصرانية – و ركنها الثاني عقيدة ألوهية المسيح ـ ينكر أربابها أنفسهم أن عيسى “عليه السلام” ادعى الألوهية، أو أنه دعا أتباعه إلى عبادته. ومن ثم تعترف الموسوعة الكاثوليكية أن الأناجيل الأولى تخلو من عقائد التثليث، وأن نصوصها لم تذكر ألوهية المسيح. وإلى درجة أن النقول النصرانية تقر، وتعترف بصراحة: أن القديس ” مرقص” صاحب الإنجيل المسمى باسمه ينكر ألوهية المسيح هو، وأستاذه بطرس الحواري. ومع ذلك يعتقدون بألوهية المسيح. ويؤصل هذا المعنى القس “جنيـبـير” في كتابه “المسيحية” بقوله، وبالحرف الواحد: «إن عيسى لم يدِّعِ أبداً أنه هو المسيح كما لم يزعم أنه ابن الله؛ لأن هذا الوصف بالنسبة لليهود ليس سوى خطأ لغوي فاحش، وضرب من ضروب السفه في الدين. كذلك لا يسمح لنا أي نص من نصوص الإنجيل بإطلاق تعبير ابن الله على عيسى».
إننا نستقرؤ من مطالعاتنا لنصوص الأناجيل أن عقيدة ألوهية المسيح تفتقد تماماً لمقومات وجودها، ومسوغات بقائها، ودلائل تصديقها، وأدلة ثبوتها؛ حيث إن نصوص الأناجيل نفسها تتكلم أحياناً عن بشرية المسيح كالقول بلسانه: قال لي الرب. أقول لكم: إني ابن الإنسان، ولكن الذي أرسلني هو حق. وغيرها من شواهد تَناقض هذه العقيدة مع معالم العقلانية السوية السليمة.
يستحيل أن يكون هذا كلاماً للمسيح. وإلى جانب تناقض النص يستحيل على العقل أن يصدق مقولة الصَّلب ذاتها. حيث تؤيد نصوصهم عدم سماح الرب بموت ابنه على الصليب كما ورد في سِفر تثنية الإشتراع، وبما نصه، وبالحرف الواحد: «إن الله تعالى العلي القدير لم يكن ليسمح أبداً بقتل المسيح الحق».
وعلينا ألاَّ ننسى أنَّ نصوص عقيدة الصَّلب مستندها التجديف اليهودي، وما رافقته من روايات التخمين، والظنِّ، والشك في حقيقة ما حصل للسيِّد المسيح، ممَّا جعل البعض من علماء النصرانية ذاتها أن ينفي حقيقة الصلب، ومنهم: “أرادوارسيوس” الفرنسي، “والهرآرنست دي بونس” الألماني. وإننا في هذه المقدمة لننعي على العقلية النصرانية أن تبني قواعد إحدى عقائدها الجوهرية على تجديف يهودي لا أصل له، ولا حقيقة تشهد له إلا الحقد على المسيح، وإن أناجيل النصرانية تشهد على هذا التجديف.
فقد ذكر القديس “مرقص” في إنجيله في الإصحاح 14 جملة 63 ـ 46 ما نصه: « فشق رئيس الكهنة ثيابه»، وقال: «قد سمعتم تجديفه، فما رأيكم ؟! فحكم الجميع أنه يستحق الموت».
ولكن للأسف: فالنصارى يريدون قتل المسيح؛ ليبرروا عقيدة الخلاص من إثم الخطيئة الموروثة.
واليهود يريدون قتله؛ لأنه ادعى أنه المسيح رسول الله؛ ولأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم. وهنا يصدق فيهم قول ربهم (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) البقرة آية 87.
إن فِرية “عقيدة موت المسيح على الصليب” في استنادها إلى التجديف اليهودي يُعتبر دحضاً لها. وإن اختلاف روايات الصلب وحدها يُعتبر نقضاً لها. وإن عدم قبول العقل لفكرة عجز الرب عن حماية نفسه، أو حماية ابنه من الموت، أو الصلب يضع هذه العقيدة في خانة الشبهات، ودائرة الشكوك. فالحقيقة أنهم لم يقتلوه، ولم يصلبوه، وإنما فعلوا مع من شُبِّه لهم، ويكفي أن يكون دليلنا على ذلك أي على عدم قتله، وتشبه غيره له قول ربنا: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)ﱠ سورة النساء آية 157.
فإننا بدورنا نذكِّرهم: والله، ما لكم إلا الجنة، أو النار؛ فإما التوحيد، والإيمان؛ وإما الكفر، والإصرار. وإنني، وتأصيلاً، وتحقيقاً لعقيدة التوحيد، ودحضاً لعقيدة التثليث، ونقضاً لعقيدة ألوهية المسيح، وتفنيداً لنصوص الإنجيل، وما احتوته من تعاليم تتعلق بعقيدة الخطيئة الموروثة، وموت المسيح على الصليب، وكون الكتاب المقدس كلام الله، ورداً على أهل النصرانية من الباباوات، والقساوسة، والرهبان قمت بإجراء هذه الدراسة المتواضعة. واتبعت فيها منهجية مناقشة النصوص الإنجيلية، وتحليلها، وإظهار تناقضاتها، وتفنيد مصادرها. وسلكت طريق الموضوعية الجادة في التحليل، والمناقشة، والنقض، والتفنيد دون أي تحامل عقدي، أو تعصب مبدأي اللهم إلا الحقيقة الإلهية، وما يتقبله العقل، ويستسيغه المنطق؛ مستعيناً في كل ذلك بما تيسر من أدلة نقلية، ونصية، وعقلية، ومنطقية، وتاريخية، وبما يؤدي إلى تحقيق الغرض من هذه الدراسة، والمتمثل في إحقاق الحق، وإبطال الباطل. ومصادري في ذلك نصوص الأناجيل نفسها، وأقوال علماء النصارى، ونصوص قرآننا الكريم، وسنة نبينا، وأقوال علمائنا. وإنني أرجو أن أكون قد وُفِّقت في هذه الدراسة حول العقيدة المسيحية النصرانية، ووضعتها في ميزان النقد العقدي البناء؛ إثباتاً لبطلانها، وتناقضاتها، ومن ثم إثبات أن الكتاب المقدس بعهديْه القديم، والجديد أي (التوراة، والإنجيل ) ليس كلام الله. هذا وقد قدمت هذه الدراسة في هذا الكتاب بعنوان: ” العقيدة النصرانية في الميزان”، وضمن سبعة أبواب، هي:
الباب الأول ـ عقيدة التثليث.
الباب الثاني ـ عقيدة ألوهية المسيح.
الباب الثالث – عقيدة ألوهية مريم العذراء.
الباب الرابع ـ عقيدة الخطيئة الموروثة.
الباب الخامس ـ عقيدة موت المسيح على الصليب.
الباب السادس ـ الكتاب المقدس ليس كلام الله.
الباب السابع ـ خطورة مصطلح الأديان السماوية الثلاثة .
اللهم إننا نحمدك على نعمة التوحيد، ونعوذ بك من كفر التثليث. اللهم اجعلنا مؤمنين موحدين، وأَمِتْنا اللهم مسلمين آمنين.
المؤلف
الأستاذ الدكتور غازي عناية