بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ
وإن خالها تخفى على الناس تعلم!
حظي موضوع المجتمع العراقي أو الشخصية العراقية باهتمام عدد من أفاضل الأساتذة من أكاديميين وباحثين متخصصين، كان –بلا شك- في مقدمتهم العالم الكبير الأستاذ الدكتور علي الوردي –طيب الله بالرحمة ثراه- ذلكم العالم الجليل الذي ملأ بشخصيته اللامعة وعلمه الغزير كل المراكز التي تولاها إلى جانب مكانته العلمية المرموقة في جامعات العالم، ناهيك عن مؤلفاته القيمة والرصينة في تحليل طبيعة المجتمع العراقي أو الشخصية العراقية والتي اتسمت بالعمق أو التشخيص الدقيق، وهو ما استحق عليه لقب (أستاذ علم الاجتماع الأول في العصر الحديث).
إن الولوج في هذا الموضوع ليس بالأمر الهين، فهو موضوع شائك وخطير وحساس والتعمق فيه يتطلب من الباحث أو المؤرخ أو الأديب، الدقة المتناهية وسعة الصدر والبال والتأني في إصدار الأحكام، والتذرع بالصبر الجميل وأن يكون على قدر واسع من فهمه للديمقراطية التي تؤهله لاحترام الرأي الآخر وتقبل ردود الأفعال، بلا تشنع أو انفعال.. يقول أستاذ التاريخ الدكتور (أحمد صالح العلي):
(لا بد أن تكون لكل مؤرخ نظرة أو فلسفة محددة، فمن لا نظر له يكون فاقداً أهم مظاهر الإنسانية وطابعها المميز، على أن تكون هذه النظرة واسعة وعقليته مرنة، تقلب الأمور، وتختار ما تراه صحيحاً، لا ما تريده أن يكون صحيحاً، وهذه الرحابة والمرونة وحب الحق ينبغي أن تكون المعيار في تفضيل دارسي التاريخ).
لا بد لي، وأنا ابحث في موضوع المجتمع العراقي، من التنويه بأني لم أنهج الأسلوب الذي انتهجه أساتذة محترمون في دراساتهم المنهجية العلمية وبحوثهم الجادة والرصينة وتحليلاتهم المنطقية والعلمية لطبيعة المجتمع العراقي، فالموضوع الذي سأبحثه وأسبر أغواره في واد، والمنهج العلمي في واد آخر، والفرق بينهما جد واسع وكبير.
لقد صالوا وجالوا في علم تعريف طبائع الإنسان وأحوال معيشته وفنونه وأدواته وهو العلم الذي سمّاه اليونانيون بـ (أنثروبولوجيا) وتحدثوا عن الطبيعة وعلاقتها بالطبائع البشرية، كالموقع الجغرافي والمناخ وطقوسه والتفاوت الشديد في درجات الحرارة، صيفاً وشتاءاً، ليلاً ونهاراً، وعنف الفيضانات وهذا ما كان قد بحثه العالم الآثاري الكبير المرحوم الأستاذ طه باقر –طيب الله بالرحمة ثراه-.
وتحدثوا عن الشمولية والحرب واستبداد السلطة وهو ما ذهب إليه الراحل الأستاذ (محمد مبارك) في حديثه عن طبيعة الإنسان في كتابه (محاولة في فهم الشخصية العراقية).
وتحدثوا عن (الأيكولوجيا) التي اعتبرها الباحث الاجتماعي الدكتور (كامل جاسم حمودي المراياتي) من أهم عوامل تكوين الشخصية العراقية والذي أخذ على الدكتور الوردي، كون دراساته غلب عليها الطابع التاريخي لا (الأيكولوجي)!!
وتحدثوا عن تنوع ألوان الشخصية العراقية، كما جاء في دراسة الأستاذ الجليل الدكتور (عبد الجليل الطاهر) عن الشخصية العراقية، وتحدثوا عن تعدد أطياف المجتمع العراقي والحالات العقيمة نتيجة الأحوال الفظيعة التي مرَّ بها العراقيون.
لقد أدلى أولئك الأساتذة الأفاضل بدلوهم، وليسمحوا لي أن أدلي بدلوي بين الدلاء…!!
إن نظرتي لطبيعة المجتمع العراقي وعاداته تأتي من خلال تعامل أفراده اليومي، بعضهم البعض، ذلك التعامل الذي أفرز ظواهر مفزعة ومؤثرة في طرائق سلوك العراقيين، لا يجوز –من وجهة نظري- السكوت عنها أبداً، وقد أشرتها بكل وضوح وجرأة، وبذلت قصارى جهدي لكي يكون بحثي هذا موثقاً، مع شديد الاحترام والتقدير للمبررات التي استند عليها أولئك الباحثون الأجلاء في تفسيراتهم لطبيعة العراقيين.
إن تأشيري للظواهر المدانة في سلوك العراقيين –حسب رأيي المتواضع- ليس مردها الكوارث التي ألمت بالمجتمع العراقي كما يذهب إلى ذلك الأستاذ الدكتور (سليم الوردي) في معرض نقده، كتاب (تمذهب الدولة العراقية) للمفكر البارز والمؤرخ الثبت الأستاذ (حسن العلوي) حيث قال عن العلوي انه (يريد إخضاع جميع ظواهر المجتمع العراقي لسطوة الظاهرة الطائفية)!! وفي رأيي المتواضع، ليست جميع ظواهر المجتمع العراقي تحت السيطرة الطائفية..!! وهذا ما سيتضح في السطور القادمة.
يشتمل كتابي هذا على أربعة فصول، كل فصل يتحدث بإسهاب وببيان واضح لا لبس فيه ولا غموض ومدعم بالأسانيد الحاسمة والوقائع المثبتة عن طرائق سلوك العراقيين، مستعيناً بآراء ومقالات نخبة من مثقفينا المبدعين، المؤمنين بشرف الكلمة الذين كشفوا المستور من أخلاق بني وطني، بروحية عالية من الوطنية، الصادقة، وبصماتهم لا تنمحي في عالم الكتابة عن قدسية الحرف وفن الكلمة الموزونة.
كنت إذ أقرأ مقالاتهم، أعاود قراءتها مرة ثانية وثالثة لرصانتها وتشخيصها الدقيق.
لقد حاولت أن أجتزئ منها ما يرصع مؤلفي المتواضع هذا، بجواهر كلماتهم، إلا أني كنت أتردد حيث وجدت أن التجزئة قد تشوه المعنى المقصود في المقال قد لا يدركه أو يفهمه القارئ العادي، فرأيت نشره بالكامل كوثيقة دامغة لا تقبل النقاش أو التأويل، وثيقة للتاريخ قد يستفيد منها بعض الباحثين أو المؤرخين أو أساتذة علم الاجتماع عند تناولهم طبائع العراقيين بالدراسة أو التحليل، وصولاً إلى الحقيقة التي هي –بلا شك- رائد كل باحث أو ناقد أو مؤرخ منصف، بالإضافة إلى كونها داعم قوي لما أقوله وأكشفه، أن الهدف من إعادة نشر بعض المقالات أو نشر خلاصة بما ورد فيها هو لأن القارئ لا يحتفظ بالجريدة حين ينتهي من قراءتها، بل ينبذها كما تنبذ النواة –إن صح التعبير- بينما الكتاب يبقى في المكتبة عقوداً وهذا ما جعلني أنشر بعض المقالات في هذا الكتاب بالكامل، فلربما يخيل للعراقيين بأن فضائحهم سوف لا يطالها التوثيق! أو أن غسيلهم سوف لا ينشر أو يتوهمون بأن الستار قد أسدل عليها.. مستغرقين في نشوة المديح الكاذب!.. كلا.. فلا بد أن تبقى أخطاؤهم وفضائحهم راسخة في الأذهان، وماثلة للعيان، وأن ما يُنسب إليهم من مثاليات يتباهون بها أمام المجتمعات الأخرى، ما هي إلا محض أكاذيب وادعاءات فارغة لا تقوى على الوقوف أمام الأدلة والبراهين لذلك رأيت إعادة نشر تلك المقالات كوثائق لا بد منها.
لقد فتحت صحفنا الوطنية كالصباح والمشرق والمدى والصباح الجديد والبينة الجديدة صدرها لتلكم الأقلام الحرة النظيفة، اذكر منهم على سبيل المثال، لا أحصر، الأستاذ الدكتور سيّار الجميل، حسن العلوي، الدكتور حميد عبد الله، ضياء الجصاني، جمعة عبد الله فلك، فلاح المشعل، كاظم غيلان، نصيف فلك، اسماعيل زاير، عبد الزهرة زكي، وليد فرحان، سرحان المحنة، عبد المنعم الأعسم، حسن العاني، حسين الجاف، ابراهيم أحمد، أحمد خالص الشعلان، أحمد عبد الحسين، علي شايع، حقاً أنهم عنادلاً، أسعفوني بما دبّجه يراعهم في توثيق فصول هذا الكتاب.
لم أتحدث بالعموميات، يقول الأستاذ أحمد خالص الشعلان: (إن واحداً من أخطائنا القاتلة نحن الشرقيين هو الحديث بالعموميات والنأي قدر الإمكان عن تسمية الأشياء بأسمائها، وقد دفعنا لقاء عموميتنا، التي لا تختلف عن الأمية بشيء أثماناً باهظة، وما نزال حتى اللحظة تلامذة لا نعي الدرس ولا نفهمه، وباختصار لسنا تلامذة من النوع الجيد!!).
ولم أغفل عن ذكر اسم اي كاتب فاضل له بصماته الواضحة وأسلوبه المميز في حديث سجلته أو رأي سديد استند عليه وستتأكد من ذلك أثناء قراءتك لهذا الكتاب، اللهم إلا في حالة السهو غير المقصود، هنا يستوجب الاعتذار منه والعذر عند كرام الناس مقبول.
ستترائى لك حقائق مذهلة مخبأة تتعلق بسلوك العراقيين وعيوبهم وستتكشف لك أقنعة الغش والخداع التي يتوارى خلفها العراقيون وستتأكد أن هجائي لبني وطني لم يأت من فراغ… بل من واقع مرير عشته بالعمق سنين عجاف طوال!! وحكمت عليه بالعمق!!.
سئل شاعر أعرابي أيام الأمويين، مالك تهجو قومك؟! فقال: لأنهم أشباه الغنم، إذا صيح فيها رفعت، وأن سكت عنها رتعت…!!. لقد فعلها قبلي (الوهراني) كاتب صلاح الدين الأيوبي الذي اشتهر بحدة النقد ضد معاصريه من المثقفين ورجال الدولة.
وكذلك فعلها (أناطول فرانس) الحكيم الفرنسي الكبير (1844-1924) الذي وضع كتاباً حمل فيه حملة شديدة الوطأة على قومه الفرنسيين مندداً بأخلاقهم وتقاليدهم وقد أفرغه في قالب تهكم وسخرية..!!.
اقول بكل تواضع –وهذه هي الحقيقة- أنا لست بمستوى (الوهراني) ولا (أناطول فرانس) إنه قياس مع الفارق، وأناطول فرانس لم يكن متجنياً على قومه أبداً، لقد نال هذا الحكيم الكبير جائزة نوبل في الأدب الخيالي فتبرع بهذه الجائزة للجياع الروس فأثبت بذلك شدة عطفه على الفقراء والبائسين، أما أخلاقه وصفاته فقد اشتهر عنه التواضع والدعة ورحابة الصدر وطول الأناة ومقت التعصب الديني، وقد وُجد في وصيته التي فضت بعد موته أنه يرغب في أن يدفن في مدافن (سان سير) وأن لا توضع زهور على قبره، ولا تلقى عليه الخطب!، هذه السيرة العطرة الفواحة هي بقلم الأديب العراقي الكبير الراحل الأستاذ (روفائيل بطي) نشرتها جريدة العراق الصادرة بتاريخ 14/مايس/1985 نقلاً عن مجلة (الحرية) الصادرة عام 1924.
وهكذا ستجدني –إن شاء الله تعالى- منتقداً ومسترشداً.. منتقداً لأن فضائح بني قومي أصبحت تزكم الأنوف، فضائح لا يصح التغاضي عنها، مع أني أعلم علم اليقين بأني عندما انتقد طبائع العراقيين، كمن يضرب في حديد بارد، حيث لا أمل في إصلاح طبائعهم وهل يستقيم الظل والعود أعوج..؟، وكم كان الراحل العزيز القاضي والشاعر المبدع فضيلة الأستاذ سيد عباس شبر، على حق حين قال:
إن فينا غرائزاً لا القوانين
عليها قضت ولا الأديانُ..!!
في هجومه على أمير الشعراء، أحمد شوقي، قال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.. لقد شبع شوقي مدحاً وحان الوقت ليشبع قدحاً!!.
لقد تأملت طويلاً في هذه المقولة الذهبية الرائعة، فوجدتها تنطبق تمام الانطباق على حالة العراقيين اليوم، ولا بد من استعارتها..
لقد شبع العراقيون مدحاً وحان الوقت ليشبعوا قدحاً..!، إن انتقادي لا يعكس –ربما في تصور البعض- هجوماً ظالماً أو قاسياً على أبناء جلدتي، بقدر ما هو تشخيص دقيق لواقع مؤلم نعيشه، وحالة سائدة مقرفة ومحبطة، وأعتقد أنهم اليوم بأمس الحاجة إلى صحوة ليعترفوا بذنوبهم وأخطائهم ويكفروا عن سيئاتهم..!!
ولعل خير ما يشفع لي ويوضح القصد من كشف أسرار المجتمع العراقي، قول عملاق النقد الأدبي في العراق العلامة الأستاذ الدكتور (علي جواد الطاهر)، طيب الله بالرحمة ثراه، في حديثه المنشور في جريدة الجمهورية الصادرة بتاريخ 21/مايو/1985 (حرام أن تدفن الأسرار مع أصحابها بعد عمر طويل… إن السكوت يضيع كثيراً من الحقائق ويهدر كثيراً من الحقوق)!!. وها أنذا أمامك أبوح بأسراري عن طبائع العراقيين وفعالهم.. كائناً من كان..!!.
ختاماً أرى من واجبي كمواطن يحق له إبداء الرأي، هذا أولاً، وثانياً كوني من الذين أدركتهم حرفة الأدب والكتابة ومن واجب الكاتب الحر، أن يشرع قلمه لفضح كل من يسيء إلى الوطن، إنه إحساس تام بأني أقوم بالواجب المحتم عليّ دون أن أدعي بأني ناقد بمنأى عن النقد، وأؤكد أن ما يشتمل عليه هذا (الكتيب الصغير) من فصول، إن هو إلا سجل صادق، نقل عن مفكرةٍ يومية بقلم متتبع للحوادث ولمفردات الحياة اليومية للعراقيين، باليوم والساعات، هذا وحسبي من أفاضل المتتبعين أن يرشدوني إلى ما فات من الذهن، ومرق من القلم أو تجانف للهوى والعدوان!، عسى أن يخدموا التاريخ إذا ما تطوعوا بالرد على نقدي، والله ولي الصواب.
طارق عبد الحميد الكنين
بغداد في 1/1/2010