المقدمة
الوظيفة الثقافية إحدى وظائف الاتصال بوجه عام، والصحافة بخاصة، فهي أداة ناقلة لجوانب الفكر والوعي والإبداع لاشباع الحاجات المعرفية والفكرية للقارئ، وبذلك فهي تُعد مصدراً للمعرفة الثقافية، نظراً لإسهامها في الحراك الثقافي المجتمعي عبر التعريف بالمنجز الثقافي الإبداعي بأشكاله المختلفة، وتفاعلها في رصد الفعل الثقافي في رؤية متجددة وعصرية، فضلاً عن نشر الثقافة واشاعتها لإحداث عمليات التغير الثقافي في المجتمع، وكل ذلك يصب في اتجاه الارتقاء بمحتوى الصحافة وتطويرها.
لقد وظفت الصحافة وعاءً حاملا للفكر والثقافة، وبذلك كان أثرها كبيراً في الرأي العام وفي المجالات كافة، وبخاصة الثقافي، إذ لم تعد وسيطاً ناقلاً للأخبار فحسب بل أصبحت أداة فاعلة لتشكيل الوعي الثقافي لدى الجمهور.
وتتمظهر الوظيفة الثقافية في الصحافة عبر مضامين ومعالجات قادرة على خلق وعي ثقافي يسعى لممارسة تأثيراته في إعادة الانتاج الفكري والتشكيل الحضاري لأي مجتمع من المجتمعات، وقد كان لهيمنة بنية الوسيلة الاتصالية تأثيرها الكبير في تحديد طبيعة هذه الثقافة وإيصالها، إذ يتفوق النص الصحفي الثقافي المكتوب على ما هو منطوق وصوري لكونه الخطاب الماكث والمحسوس في ضوء بنية مادية قابلة للتبادل والاسترجاع.
ان الوظيفة الثقافية في الصحافة العراقية ظلت بعيدة عن التمأسس في اداء دورها تبعاً للتغيرات الحادة والعنيفة التي شهدها العراق طيلة العقود الماضية، لذا تسعى هذه الدراسة الى تبيان دور الوظيفة الثقافية وفاعليتها في الصحافة العراقية في ظل مناخ غاب عن العراق طويلاً يحفل بالتعدديات الثقافية والأثنية والتي استطاعت ان تعبر عن نفسها أول مرة بحرية.
وإذ يبدو أن المشهد السياسي قد هيمن بطروحاته على بقية الطروحات، فإن استجلاء الوظيفة الثقافية للصحافة العراقية وتبيانها انطلاقاً من صحافته المتعددة يمثل مهمة وطنية، ذلك أن الثقافة هي ما توحد العراق وتعبر به العثرات التي يعيشها الواقع السياسي.
لقد ظهرت في تاريخ العراق القديم والمعاصر، الكثير من الأفكار والرؤى والتوجهات التي تحمل في طياتها الروح التنويرية والفكرية والثقافية في كتابات مفكرين وفلاسفة وشعراء، داعيةً للنهوض بواقع الأمة عندما تمر بحالة انكفاء أو تراجع، وهي بذلك تمثل نمطاً لقدرة الثقافي على لم شمل روح الشعب والأمة عندما يتراجع السياسي وطروحاته، ونعتقد ان الوظيفة الثقافية للصحافة العراقية في معالجاتها قادرة على أداء مثل هذه المهمة, وهذا مايعطي للدراسة اهميتها وقيمتها العلمية.
شكل التغير الذي حصل في العراق بعد عام 2003م نقطة تحول أساسية ورئيسة، في ضوء اسهامه بخلق تأثيرات كبيرة وواسعة شملت مناحي الحياة كافة، وبخاصة قطاع الصحافة والاعلام ، مما انعكس بدوره على حدوث انعطاف كبير في الاعلام العراقي من إعلام حكومي يسير في ركاب السلطة إلى اعلام متنوع ومتعدد، يحمل في طياته رؤى واتجاهات فكرية متباينة.
وبذلك أتاح هذا التغير السياسي مساحة واسعة من الحريات، بعد أن عانت الصحافة العراقية لعقود زمنية طويلة من عملية الأدلجة والتكبيل، إذ منح الكتاب فرصة التعرض لموضوعات ثقافية مهمة تتطلبها العملية الثقافية فيما يتعلق ببلورة الافكار، فضلاً عن محاولة إيجاد المعالجات الثقافية للموضوعات محل الجدل والنقاش سواء تلك المتعلقة بالجانب الثقافي البحت أم ذات البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتي يتم تناولها بوساطة رؤية ثقافية، ولكن ظلت الوظيفة الثقافية بعيدة عن التحليل والتحديد والتأثير بعد عام 2003م.
لذا شكلت موضوعة الوظيفة الثقافية في الصحافة العراقية بعد عام 2003م بؤرة اهتمامنا ، فهي بصفتها وظيفة اجتماعية اتصالية لا تستطيع إلا أن تكون معبرة عن التقاليد الحضارية من جانب، وعن طبيعة الصحافة بوصفها أداة اتصالية لها بنيتها المعروفة .
ومن هنا جاء اختيارنا لموضوع (الوظيفة الثقافية في الصحافة – دراسة تحليلية للصفحات الثقافية في جرائد (الصباح- الزمان- طريق الشعب) للمدة من 1/1/2013 إلى 31/12/2013م),
وهي محاولة لكشف طبيعة تلك الوظيفة في اطار انساق متعددة عبرت عن الواقع المعاش واتجاهاته المختلفة, ودورها في بناء ثقافة تحفل بمفاهيم جديدة وعصرية وحضارية, والوقوف على أهم مضامين الصفحات الثقافية وأشكالها، فضلاً عن الوظائف التي تضطلع بها تلك الصفحات عن طريق نشر الموضوعات الثقافية بفنونها وأجناسها كافة، والتي حتمتها طبيعة بنية الوسيلة الإعلامية (الصحافة المكتوبة)، والسعي لتحليل هذه البنية، وكيف أثرت وتأثرت بها الوظيفة الثقافية في أداء دورها الاجتماعي والسياسي والحضاري.
وتهدف الدراسة إلى تحديد طبيعة المضامين ونوعية القضايا التي عالجتها الصفحات الثقافية في ضوء فنون صحفية وأجناس أدبية كانت وعاءً لأداء الوظيفة الثقافية، مع كشف مصادر الموضوعات الثقافية ومستوياتها للمرسل محلياً وعربياً وعالمياً، والقيم التي تضمنتها وسعت لإيصالها الى المتلقي العراقي، مع بيان أولويات القضايا والموضوعات، ومدى إسهامها في تسليط الضوء على مشكلات الواقع الثقافي العراقي، فضلاً عن معرفة مدى ممارسة الصفحات الثقافية للعملية النقدية أو الترويجية أوالتواصلية مع الآخر، والوقوف على مستويات اهتمام الصحف العراقية بالصفحات الثقافية، ورصد مدى نجاح الصحافة بممارسة وظيفتها الثقافية عبر الصفحات الثقافية.
وقد اعتمدنا منهجية متكاملة, اذ كان المنهج المسحي هو أكثر انسجاماً مع طبيعتها بوصفها دراسة وصفية، وباسلوب تحليل المضمون لشكل المادة الاتصالية ومضمونها في الصفحات الثقافية , كما كان المنهج التاريخي حاضرا في تناول التطور التاريخي للصحف العراقية والتطور الثقافي في العراق, فضلا عن الاشارات القانونية في تحديد الرقابة والمنع والحظر.
مثلت الصفحات الثقافية بما تحتويه مادة للتحليل، وقد تم اختيار أعداد الصحف التي خضعت للتحليل بالآتي:
أ. ترقيم أعداد الجرائد مجتمع الدراسة كل على حدة ولمدة عام كامل (2013).
ب. تم اعتماد نسبة 20% من مجموع الأعداد الكلية لكل جريدة من الجرائد موضع الدراسة ، وذلك بإضافة رقم (5) للحصول على العينة.
ج. وضع ترقيم متسلسل من (1- 9) وبإجراء القرعة لاختيار عينة عشوائية بسيطة، جاء الرقم (2) من الأعداد التسعة الأولى وبطريقة عشوائية.
د. اعتماد طريقة عينة عشوائية منتظمة، بإضافة رقم (5) إلى الرقم (2) للحصول على الأعداد المطلوبة لمدة عام كامل.
هـ. تم اختيار العينة باعتماد الاسلوب الدائري، إذ جاء على مرحلتين الأولى باعتماد العينة العشوائية البسيطة بطريقة القرعة، والثانية باعتماد العينة العشوائية المنتظمة.
ووفق هذه الآلية لاختيار العينة بلغ أعداد الجرائد الثلاث التي مثلت عينة الدراسة ( 158)، عدداً من إجمالي إصداراتها والبالغة (809) اعداد، وبذلك فقد شكلت عينة الدراسة نسبة 19.53% من العدد الكلي.
وقد بلغت أعداد جريدة (الصباح) الداخلة ضمن عينة الدراسة (56) عدداً من مجموع (280) عدداً، وبنسبة 20% من اجمالي إصداراتها، بينما بلغت أعداد جريدة (الزمان) (56) عدداً من مجموع (302) عدد ، وبنسبة 18.54% , أما أعداد جريدة (طريق الشعب) فقد بلغت (46) عدداً من مجموع (227) عدداً، وبنسبة 20.26% من مجموع إصداراتها.
تم تحديد المدة الزمنية للدراسة بعام 2013م، لأسباب تتعلق بالآتي :
1- اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية خلال عام 2013م.
2- حالة الاستقرار التي شهدتها الصحافة العراقية بعد سنوات من التغيير على مستوى الإصدار والتوزيع.
3- بروز ملامح صحافة مهنية رصينة، تمتلك الخصوصية والمهنية العالية، خاصة بعد زوال الجرائد الطارئة التي صدرت مباشرة عقب التغيير.
4- قرب المدة الزمنية للدراسة من مدة إعداد الكتاب .
5- وجود هامش كبير ومعقول من الحرية والنقد خلافاً للعهد السابق قبل عام 2003م .
6- استمرار صدور الجرائد مجتمع الدراسة منذ عام 2003م ولغاية المدة الزمنية لاعداد هذا الكتاب .
وقد توزعت الدراسة التي نحن بصددهاعلى ثلاثة فصول وخاتمة، إذ جاء الفصل الاول بعنوان (سسيولوجيا الثقافة على وفق المنظور الاتصالي)، وضم ثلاثة مباحث، الأول منها (الثقافة (المفاهيم والخصائص))، فيما تناول الثاني (نظريات التحليل الاجتماعي للثقافة والاتصال)، وجاء الثالث بعنوان (علائقية الثقافة والصحافة).
أما الفصل الثاني فقد بحث (الصحافة والوظيفة الثقافية) وتضمن ثلاثة مباحث، الأول منها (الوظيفة الثقافية للصحافة)، فيما تناول الثاني (الصفحات الثقافية في الصحف اليومية (تأصيل مفاهيمي))، وجاء الثالث بعنوان (الخطاب الثقافي في الصحافة العراقية 1968- 2003م).
وخصص الفصل الثالث للدراسة الميدانية (تحليل الصفحات الثقافية في جرائد (الصباح- الزمان- طريق الشعب) للمدة من 1/1/2013 إلى 31/12/2013م)، واشتمل على ثلاثة مباحث، الأول (تحليل الصفحات الثقافية في جريدة الصباح)، فيما تناول الثاني (تحليل الصفحات الثقافية في جريدة الزمان)، وجاء الثالث بعنوان (تحليل الصفحات الثقافية في جريدة طريق الشعب), ومن ثم الاستنتاجات العامة والتوصيات والخاتمة .
ختاما, لاندعي اننا قد بلغنا حد الكمال في دراسة هذا الموضوع , فان ذلك طموح يصعب الوصول اليه , غير اننا تصدينا لموضوع مازال حتى الان لم ينل الاهتمام الذي يستحقه من الباحثين والكتاب في مجال الصحافة , هذا وارجو ان ينال القبول والرضا
ومن الله التوفيق
