السلطة التقديرية للقاضي المدني والرقابة القضائية عليها

المقدمة
يقوم القاضي المدني بصدد الدعاوى المطروحة عليه بنشاط ملحوظ سواء في المجال التعاقدي أو اللاتعاقدي، ومن واجب هذا القاضي أن يتفهم إرادة العاقدين ونيتهما في إحداث الأثر الوارد في العقد من عدمه. والسلطة التقديرية هي النشاط الذهني الذي يعتمد عليه القاضي حيال النزاع المطروح. وقد ثار خلاف فقهي حول وجود سلطة تقديرية للقاضي وبرزت اتجاهات مختلفة، فجانب من الفقه أنكر وجود سلطة تقديرية للقاضي، وجانب آخر يبيح السلطة التقديرية ولكن بقيود، أما الجانب الثالث فذهب إلى اتجاه واسع واعترف بمبدأ السلطة التقديرية.
وتبدو مشروعية السلطة التقديرية للقاضي من الكتاب والسنة النبوية، فقد حرص الإسلام أكثر ما حرص على حفظ الحقوق وإقامة العدل بين الناس، وأن الإجتهاد بالرأي من الأمور الأساسية التي كانت ولا تزال قائمة لما فيها من فوائد عظيمة.
وتمتد سلطة القاضي التقديرية لتشتمل الجانب التعاقدي إلى جانب غير التعاقدي، فيقوم القاضي بإعمال سلطته التقديرية في المجال التعاقدي وهذه السلطة تضييق وتتسع بحسب الأحوال، فالقاضي يبحث في هذا المجال عن الإرادة ودورها في إحداث الآثار القانونية، والإرادة قد تكون باطنة وقد تكون ظاهرة ويكون تقدير القاضي متراوح بين التقدير الموضوعي والتقدير الشخصي. ويعمل القاضي سلطته في المجال غير التعاقدي أيضاً، فيقوم بتقدير عناصر المسؤولية التقصيرية والنظر في كيفية تحديد العناصر المكونة لها، وقد اختلفت التشريعات فيما بينها فهي ليست سواء في النظريات التي تقيم على أساسها المسؤولية التقصيرية، فبعض التشريعات تقيم هذه المسؤولية على فعل الإضرار بدون توافر الخطأ، أما التشريعات الأخرى فتقيم المسؤولية على الخطأ، كما يقوم القاضي بتقدير أسباب دفع المسؤولية فيقدر السبب الأجنبي (كالقوة القاهرة) على اعتباره سبب من أسباب الإعفاء من المسؤولية.
إن مهمَّة القاضي محصورة فيما يقدمه أطراف الخصومة من طلبات ودفوع، فالقضاة يفسرون القانون بمناسبة ما يعرض عليهم من منازعات وينزلون لمعترك الحياة متأثرين بالظروف المحيطة بهم بحيث يصدروا القرارات المتفقة مع ظروف الواقع والمجتمع. ولا يفسر القاضي القانون إلا فيما يعرض عليه من دعاوى، فالقاضي إبتداءاً يقوم بالتعرف على الحق المتنازع فيه فهو النقطة الرئيسية في القضية ويقوم بالفهم له عن طريق الإثباتات والبراهين بالشهادة والبينة وطرق الإثبات كافة. والقاضي لا يمكن أن يكون متمسكاً بالحلول المسبقة في المنازعات المشابهة لأن هناك متغيرات مستمرة من شأنها جعل الحكم الأول غير صالح للحكم الآخر المشابه.
وبالتالي يستعين القاضي بكل الوسائل المنطقية والقانونية، وإذا رأى القاضي بأن الحل النهائي الذي توصل إليه متفق مع روح القانون والعدالة يضفي عليه صبغة العمل القضائي. والقاضي يستعين بكل ظرف متعلق بالموضوع المعروض أمامه ويطبق دائماً معايير التجربة الفنية المتبعة بصفة عامة لا المثالية الشخصية وله الإستعانة بذوي الخبرة.
إن القواعد القانونية التي أوجدها المشرع تعجز عن معالجة ووضع الحلول الكاملة والشاملة للحالات الفردية المستعصية لا سيما وأن هذه القواعد تمتاز بالعموم فكل شيء له غاية، فالقانون غايته إقامة العدل وضبط الروابط وأن معياره هو الواجب البحث، والمعيار القانوني هو ليس عبارة عن اتجاه عام يقيِّد القاضي، بل يهتدي به عند الحكم ويعطيه فكرة عن غاية القانون.
والقاضي يبحث وبموجب سلطته التقديرية الممنوحة له من المشرع عن المعيار الأنسب للقاعدة القانونية، فإما أن يطبِّق المعيار الشخصي (الذاتي) إذا كانت فكرة العدل على أساس الحالة الخاصة، وإما أن يطبِّق المعيار الموضوعي إذا كانت فكرة العدل على أساس الأخذ بالوضع الظاهر، وبما أن القاعدة القانونية مجردة وعامة وتمتاز بالثبات فإن المشرع بهذا يرشد القاضي ويعطيه سلطة في البحث عن المعيار القانوني مثل سلوك الرجل المعتاد والنظام العام والعدالة، فالقاعدة القانونية تعطي الحكم لجميع الحالات التي يتطابق فيها فرضها مع وقائع النزاع المعروض على القاضي.
ويعتمد القاضي في حالة تحديده لنطاق ومضمون الأفكار القانونية الواردة في القاعدة القانونية المراد تطبيقها على تقديره للمعيار الوارد بها سواء أكان موضوعياً أم شخصياً، وعليه سنعرض مفهوم كل من المعيار الموضوعي والمعيار الشخصي.
ويخضع تقدير القاضي سواءً في المجال التعاقدي أو غير التعاقدي لرقابة محكمة التمييز، فتراقب هذه المحكمة ما يقوم به القاضي من تقدير وذلك عن طريق تسبيبه للقرار الذي يصدره في مسائل الواقع، كما ترقب مدى تطبيق القاضي للقانون تطبيقاً صحيحاً في مسائل القانون، فمحكمة التمييز هي الجهة الرقابية على اجتهاد القضاي وتقديره، فتفرض رقابتها من خلال تسبيب القاضي لقراره كما تراقب هذه المحكمة ما انتهى إليه القاضي من آلية في تطبيق القانون.
مشكلة الدراسة:
هي الفصل بين العمل المهني للقاضي والمساحة التي قد يدخل إليها عند الإجتهاد في ساحة المشرع خصوصاً في الدول التي لا تأخذ بالسوابق القضائية وتطبق مبدأ الفصل بين السلطات، لا سيما وأن السلطة التقديرية تكاد أن تجعل القاضي مشرعاً لمرونتها، وأن مصطلح السلطة التقديرية أصبح من سمة الأحكام القضائية بحيث يكاد لا يخلو أي حكم دون الإشارة إليها من قريب أو بعيد.
أهداف الدراسة ومبرراتها:
تهدف هذه الدراسة لمحاولة وضع ضابط محدد لماهية السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي ومدى تطابقها مع النصوص القانونية التي يلتزم بها القاضي حتماً، ومحاولة إيجاد معايير لممارسة القاضي لتلك السلطة التقديرية. وبهذه الدراسة سنلقي الضوء على مدى الرقابة على هذه السلطة التقديرية التي يقوم بها القاضي المدني من قبل محكمة التمييز، بحيث يكون القاضي المدني باستعماله سلطته التقديرية خاضع للرقابة التي تمنعه من تجاوز الحدود المرسومة له، لاسيما وأن القاضي ملزم بالحياد وعدم الحكم بعلمه الشخصي.
الدراسات السابقة:
بعد اطلاعي على العديد من المراجع تبين لي بأن موضوع هذه الاطروحة تطرق إليه بعض الشراح من قبلي، ومن هذه الدراسات على سبيل المثال ما قدَّمه الدكتور نبيل اسماعيل عمر في مؤلفه المعنون “سلطة القاضي التقديرية في المواد المدنية والتجارية”، وكذلك دراسة الدكتور أحمد محمود سعد في مؤلفه “مفهوم السلطة التقديرية للقاضي المدني”، وكذلك الدراسة المنشورة في دراسات علوم الشريعة والقانون للدكتور ذياب عبد الكريم عقل ومحمد علي العمري وعنوانها “السلطة التقديرية للقاضي في التشريعات القضائية وتطبيقاتها في المحاكم الشرعية” وغيرها من المؤلفات. إلا أن موضوع هذه الاطروحة يحتاج لتعمق واستزاده، وأن ما ذكر في موضوعي فيمن سبقني سوف يضيء لي الطريق ويهديني لأبدأ بحثي هذا، وسوف أقوم ببحث هذا الموضوع بتعمق وتفصيل والتعقيب على القوانين الأخرى بالمقارنة كالقانون المصري والعراقي بالإضافة إلى الفقه الإسلامي وموقفه من السلطة التقديرية.
منهجية البحث:
سيعتمد الباحث في دراسته المنهج التحليلي الإستقرائي ومعرفة موقف المشرع الأردني من السلطة التقديرية للقاضي المدني، والتطرق إلى الفقه الاسلامي لمعرفة موقفه من مبدأ السلطة التقديرية أصلاً ونطاقها وجدواها وشرعيتها.