المقدمة
في العالم الجامعي المنيف يطالعك الشباب الواعد بغده ومستقبله المعرفي والعملي، ويطالعك أهل العلم وعشاق المعرفة من أساتذة الأجيال وهم يختزنون في عقولهم الزاد المعرفي وجبات عامرة وطافحة بألوان من ثمار الشجرة العلمية الوارفة التي لا ينضب معينها، ولا تذبل غصونها ما امتدت الحياة بالإنسان وما امتد به الطموح والأمل المتجدد المنطلق في ذرى المجد المعرفي.
وبين هذا اللون من المعرفة، وذاك الحقل من التخصص وبين هذه القاعة وتلك من قاعات الدرس ومختبراته بينها كلها يمتد شريان دافق،حي متجدد يسري فيه نبض الحياة في أركان الوجود التي تتهادى جنبهاته نشوانة عبر القنوات المعرفية لتنساب إلى مفاصل النشاط الحيوي في أجهزة ومؤسسات النشاط العام والخاص في أجهزة ومؤسسات النشاط العام والخاص مدخلات من النتاج العقلي، المشبع بطاقات معرفية تمتد من هذا القطر إلى ذلك من دائرة الأرض متجاوزة فواصل الأعراق والأجناس وحدود الزمن في المسافات البعيدة وعبر منصات الانطلاق العقلي وأجهزته المبتكرة التي اختزلت الزمن، واختصرت المسافات ما بين رقاع الأرض بمثل ما اجتازت فواصل العصور لتكون حاضرة مع الإنسان في كل محفل، وفي كل موقع، وفي كل زمان ومكان، وحيث هي الجامعات في كل بلد موئل النشاط العلمي، ومضخة الإنتاج العملين ورافد الحيوية المتجدد تحدد الإبداع الفكري وتواصل. معطياته، والذين عاشوا الحياة الجامعية وواكبوا مسيرتها وانخرطوا في مسيرتها الرحبة، واغتنوا من فيضها الزاخر، كانوا على الدوام من رواد الخبرة المعرفية، ومن فلاسفة الحياة، حيث تجد في هذا الوسط المعرفي ألوانا شتى من الجهد العلمي، وأصنافاً متعددة من السلوك الإنساني الذي يتلون تلون البيئات المختلفة التي يفد منها شخوص الحياة الجامعية، وتجارباً قيمة القدر من أعمار متفاوتة ما بين الشباب والكهولة والشيخوخة ومن مصادر مختلفة من النشاط ما بين العمل التدريسي، البحثي، والإداري، والاجتماعي.
وفي الفصل الذي أفردناه لأصول التعليم عند العرب وفي الغرب نستبين أن معالم ومآثر الاجتهاد العلمي والتطور المعرفي إنما كانت حصيلة تلك المجهودات البحثية –المعرفية التي توافرت لها جهود المدارس والمجالس العلمية عبر التاريخ والتي اغتنت بالإنجازات العقلية لتكون عناوين الرقي والتطور في حياة الإنسان عبر العصور، وقد شكلت الجامعات في العصر الحديث دلالات هذا التطور الحضاري – المعرفي المميز والذي كان من ثمرات الجهد العقلي لطائفة مميزة من أهل العلم والخبرة تواصلت بحوثهم التطبيقية بفضل تقدم الوسائل التقنية، وما قدمته تكنولوجيا المعلومات من سرعة التداول المعرفي، مع سرعة انتقال التكنولوجيا المتقدمة التي تطورت بها الوسائل والأساليب على نحو مضطرد تجاوز فيه العصر الحديث مراحله التطورية بفترة قياسية لينتقل بسرعة من طور الثورة الصناعية الأولى إلى التصنيع التقني العالي، فالأتمتة، ثم إلى عصر العولمة والسيادة المعلوماتية التي قصرت المسافات بين الدول والشعوب ليصبح العالم كله كما قيل “قرية صغيرة” يلتقي فيها أبناء النهار بأبناء الليل من هذا النصف إلى ذلك النصف الآخر من الكرة الأرضية ضمن أصغر وحدات الزمن.
ومن دوحة الجامعات الكريمة وروضتها وموئلها العلمي المتجدد العطاء التقطنا مشاهدا من تجربتنا وملاحظاتنا في التدريس الجامعي، مواقفاً وأفكاراً تجسدت في لوحة من التعبير، أصداءً نهلناها من هذا الرافد الحيوي الذي أخذنا فيه حصتنا في عهد الشباب واغتنينا منه بحصة أوفر بعد ذلك وحين يكون المرء طالباً في الجامعة ثم مدرسا فيها فإنه يستشعر تماماً ذلك القدر من فاعلية الدور العلمي والتربوي للجامعة، وتظل روح الشباب وعنفوانه شاخصة فيه لأن في معاشرة الشباب اكتساب منهم، كما أن معاشرة الكهول والشيوخ العارفين اكتساب منهم، ويقيناً فإن من يتجاوب مع أصداء الشباب المتعلم ومن يستفيد من خبرة اساتذته يفهم ما ينبغي له أن يفهم من متطلبات الدور التدريسي والتربوي وهو ما ينبغي أن يدركه الكادر التدريسي والإداري في الجامعة كيما تتوازن كفتا المطلبين التعليمي والتربوي في نطاق العمل الجامعي ليستقيم الميزان المعرفي فيه على قاعدة متينة وراسخة الدعائم.
وقد وجدنا في تعاليم المعلمين ورجال العلم الأولين وإرشادهم ما يصح الاعتبار به، بمثل ما يصح الاسترشاد بثمار الفكر التربوي الحديث، ولذلك أفردنا فصلاً خاصاً عن المثال المعرفي والمثال التربوي عند ابن خلدون، وطائفة من الحكم التعليمية-التربوية المستقاة من فكر الأديان وطائفة من أهل الحكمة وقد نقلنا بإزاء ذلك وجهات نظرنا وما تسنى لنا معرفته من واقع العمل التدريسي والإداري معاً وربما يكون في بعض الذي ذهبنا إليه من الرأي والاستنتاج ما لا يتوافق مع نزعات البعض من شاغلي الدور التدريسي أو الإداري في بعض مرافق التعليم الجامعي، فهذا هو راينا أصدرناه معتقدين تماماً أن في صريح الرأي والنقد الهادف ما يعزز دور هذا القطاع الحيوي من قطاعات النشاط المعرفي المنتج ومن الطبيعي أن لا يكون كل ما يقال يرضي كل من يقرأ، كما أن ليس كل إداري في الوسط الجامعي يرضى بكل ما يطرح من مسائل تتصل بعملية التطوير للأداء التعليمي والتربوي فالناجحون والمتميزون في التدريس والإدارة التعليمية والذين يتولون مواقعهم بأهلية وجدارةهم الأكثر استحابة وترحيباً بكل فكرة أو طرح يختص بالمسيرة التعليمية التي لا تخص أحداً بذاته بل هي ملك المجتمع الذي هو مدار ومحتوى الخدمة العلمية والتربوية التي تجد نبعها وانبعاثها في هذا المعين الثر الذي رفد ولا يزال يرفد كل قنوات النشاط العلمي، والإداري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في بلداننا بالطاقات العقلية المتجددة.
والله نسأل أن نكون عند حسن ظن زملائنا وطلابنا في الوطن العربي الذين لهم في قلوبنا من التقدير والاعتزاز بمثل القدر من المهابة والاعتزاز بالرحاب الجامعي المهيب الذي أصبح عنواناً لمكانتنا العلمية والإنسانية.
الدكتور مهدي حسين التميمي