مقدمة
يشكل الأمن في منطقة غرب المتوسط موضوعا محوريا في كل مبادرات التعاون ما بين ضفتي المتوسط والحوارات والنقاشات بين صناع القرار والأكاديميين؛ بسبب تنامي صف من التهديدات العابرة للمتوسط. تشتق خطورة هذه التهديدات من تعقيداتها وعدم وضوحها بحيث وجدت الفواعل الوطنية نفسها تواجه أعداءً غير واضحين وغير محددين في منطقة جغرافية معينة ومؤثرين في زعزعة استقرار المنطقة التي تعاني من القابلية العالية للعطب خاصة شمال المنطقة حيث تقيم مجتمعات مرفهة لا تتساهل مع أي تهديدات تنغص عليها شروط الحياة القائمة. في الجانب الآخر، تعاني حكومات جنوب المتوسط ضغوطا متزايدة من أجل كبح تدفق التهديدات عبر المتوسط نحو الشمال سواء تعلق الأمر بالهجرة غير الشرعية أو الجريمة المنظمة أو الإرهاب أو المخدرات. كما أن هناك مخاوف أوربية كبيرة حول انهيار أمني جنوب المتوسط (الجزائر في تسعينيات القرن العشرين وليبيا الآن) يؤدي إلى تدفق اللاجئين نحوها وانقطاع خطوط إمدادات الطاقة.
أظهرت كل الاعتبارات السابقة بجلاء حالة الاعتماد المتبادل الأمني ما بين ضفتي غرب المتوسط بالرغم من أن التباين الشديد بينهما في الخاصيات السوسيولوجية والثقافية والبنيوية وحتى الاقتصادية والسياسية، لكن القضية الأمنية كانت وراء تحريك عدد من المبادرات الإقليمية منذ نهاية الحرب الباردة وخلق الدوافع القوية نحو التنسيق الأمني الإقليمي الذي يوما بعد يوم يأخذ الشكل المعقد عبر الانخراط المتزايد في عمليات تبادل المعلومات والتدريبات المشتركة بين الحلف الأطلسي ودول جنوب المتوسط حول تطوير قدرات الإنقاذ والتعقب وتحليل المعلومات. ما مثير للاهتمام أن مرور الزمن أخذ التفاعل الإقليمي يأخذ شكل المتعدد القطاعات بحيث يشمل الشراكة الاقتصادية وفتح الأسواق الوطنية والتعاون حول الجريمة المنظمة والثقافة وحقوق الإنسان والإصلاحيات المؤسساتية لحكومات الجنوب بالإضافة إلى التنسيق الأمني الإقليمي؛ مما يعني أن مفهوم الأمن الإقليمي قد توسع ليشمل المجالات المختلفة التي تؤدي مخرجاتها النهائية إلى تحقيق الاستقرار عبر إقليمي.
من ناحية أخرى، أظهرت التهديدات الأمنية المتنامية عبر إقليمي أهمية الانخراط الإقليمي في العملية بغض النظر عن التباين في حجم القوة والثقل الإستراتيجي بسبب الخاصية غير التقليدية لطبيعة هذه التهديدات وأنها مرتبطة باستقرار كل فواعل المنطقة ومنبثقة من بيئات جميع الأطراف. لذلك أصبح المفهوم الوطني للأمن غير فعال بدرجة كافية في تحقيق الاستقرار واحتواء التهديدات، أو بمعنى آخر غير مناسب في تحليل الديناميكيات الأمنية العابرة للحدود وحتى فهم سلوك الفواعل المحركة للأمن. الأكثر من ذلك، يشتق الأمن الإقليمي حيويته وأهميته من طبيعة التهديدات وعمل العناصر المهددة التي أصبحت تعمل وتتفاعل عبر إقليمي بدل المحلي أو الوطني مثل جماعات الجريمة المنظمة أو جماعات تهريب المهاجرين أو مافيا المخدرات والجماعات الإرهابية. لذلك أصبح المستوى الإقليمي في التحليل الأمني أكثر أهمية من غيره من المستويات الأخرى، وهو المستوى الذي تغيب فيه بدرجة ما المعنى التقليدي حول دور القوة العظمى المهيمنة، وتحل محله المعنى الجديد الذي تصبح لكل الأطراف دور في التنسيق الإقليمي (مثلا موريتانيا وفرنسا).
تشكل كل هذه الاعتبارات النظرية والسلوكيات التطبيقية أرضية مناسبة للتحليل الإقليمي لقضية الأمن غرب المتوسط، وتشتق منها أهمية المستوى الإقليمي في التحليل الأمني.
و مما سبق تشتق هذه الدراسة إشكالية بحثية عامة تندرج على النحور نحو اعتبار أن التهديدات الأمنية دفعت فواعل منطقة غرب المتوسط تفاعل و تعامل الأطراف مع بعضها البعض لبناء إستراتيجيات وإطلاق مبادرات وتنسيق أمني إقليمي، بالرغم من التباين في مستوى الرفاهية الاقتصادية والأولويات الأمنية بين أطراف ضفتي الأطلسي، وحتى التباين في التطور الاجتماعي والسياسي بين المجتمعات؛ بالإضافة إلى علاقات العداوة التاريخية والملفات العالقة لحد الآن ضمن العلاقات الإقليمية بين ضفتي غرب البحر الأبيض المتوسط.
تقضي أطروحة نظرية “مركب الأمن الإقليمي” بأن علاقة العداوة/الصداقة والاختراق هي المحدد لخاصيات العلاقات الأمنية الإقليمية ومن ورائها مركبات الأمن الإقليمي. ومن ثم يمكن طرح التساؤل في العلاقات الأمنية الإقليمية غرب المتوسط حول ما هي المحددات الرئيسية للأمن الإقليمي: هل هي علاقات العداوة/الصداقة والاختراق أم مصادر التهديد المشتركة؟ للإجابة على هذا السؤال العام، لابد من طرح مجموعة من الأسئلة الفرعية، للإجابة على السؤال العام وهي كالتالي:
1- ما هي مصادر التهديد الأمني عبر إقليمي في منطقة غرب المتوسط؟
2- ما هي المبادرات الأمنية الإقليمية وما هي دوافعها الخلفية؟
3- ما هي المضامين الإستراتيجية للعمليات الأمنية الإقليمية: سواء أخذت شكل الحوار الأمني الإقليمي أو شكل البنية الإقليمية؟
4- ما هو مستوى تأثير علاقات الصداقة/العداوة في تقريب ضفتي المتوسط مقارنة بالتهديدات الأمنية المشتركة؟
5- هل نحن بصدد مركب أمن إقليمي في منطقة غرب المتوسط أم جماعة أمنية؟
كما و تجدر بنا الإشارة إلى أن هذه الدراسة تتطلب اتباع مناهج علمية دقيقة و متداولة في حقل العلوم الإجتماعية عموما و حقل العلوم السياسية و العلاقات الدولية على وجع الخصوص. و قد قمنا بالتركيز على كل من:
1- المنهج التاريخي
المنهج الأكثر مناسبة في تحليل موضوع التهديدات الأمنية الجديدة وعلاقتها بالأمن الإقليمي هو المنهج التاريخي، الذي ينطلق من فكرة أن التاريخ محكمة ومخبر اختبار المعرفة العملية. وعند توظيف مفاهيم نظرية مركب الأمن الإقليمي مثل مفهوم “العداوة/الصداقة، لابد من الاستعانة بالمعطيات التاريخية حول العلاقات ما بين ضفتي المتوسط التي في بعض الأحيان توجه عمليات صناعة القرار نحو خيارات معينة دون أخرى وفي أحيان أخرى لا. لذلك، هناك من ينظر إلى المنهج التاريخي على أنه: ” المنهج التاريخي لم يعد يقنع فحسب بالوصف والسرد بل يفرض طريقة استقرائية يغلب عليها التحليل والتركيب، والمؤرخون اليوم يتفادون وصف الحوادث ومجرد سرد نتائجها ويوجهون اهتمامهم الأكبر إلى تقسيم وبيان أسباب الظواهر التاريخية وعلاقاتها الارتباطية … والتاريخ بمعناه العام يبحث في تطور المجتمعات البشرية والظواهر الطبيعية الأخرى، كتاريخ الأرض وتاريخ الكون مثلا، وبمعناه الخاص يتناول المجتمعات الإنسانية في الماضي وما تركته وراءها من آثار ووثائق ومستندات مسجلة أو مشخصة بذاتها كالمعابد والتماثيل والأدوات المختلفة والأهرامات”
2- المنهج الوصفي
الذي يعرف بأنه: “طريقة لوصف الظاهرة المدروسة وتصويرها كميا عن طريق جمع معلومات مقننة عن المشكلة وتصنيفها وتحليلها وإخضاعها للدراسة الدقيقة”. وهناك من يعرّفها بأنه: “يقوم … على وصف ظاهرة من الظواهر للوصول إلى أسباب هذه الظاهرة، والعوامل التي تتحكم فيها واستخلاص النتائج لتعميمها، ويتم ذلك وفق خطة بحثية معينة وذلك من خلال تجميع البيانات وتنظيمها وتحليلها”. وهناك من يرى أن البحوث التي تعتمد على الوصف هي: “البحوث التي تركز على دراسة الحقائق الراهنة المتعلقة بوصف طبيعة وسمات وخصائص مجتمع ما أو جماعة ما، إذ بعد الدراسة الكشفية يتم التنقل بين الفروض التي تم استخراجها للتوصل إلى أهمها”. وهناك من يرى أن اداة الوصف: “تحاول … جمع بيانات دقيقة عن الظاهرة التي يتصدى لدراستها في ظروفها الراهنة وإن كان تحاول أحيانا تحديد العلاقات بين هذه الظاهرة والظواهر التي يبدو أنها في طريقها للتطور أو النمو ووضع تنبؤات عنها.”
يتميز المنهج التاريخي الاعتماد على الوصف بالخاصيات التي تناسب طبيعة التحليل الإقليمي للتكامل، والتي يمكن تلخيصها في مجموعة من النقاط هي كالتالي:
1-إن استخدام المنهج التاريخي في البحوث الاجتماعية وتحليل الظواهر الاجتماعية، يوفر قدرا هائلا من المعلومات، التي تكون شاملة للموضوعات من كل النواحي، بما يجعل الباحثين أكثر تحكما في بحثهم.
2- تمثل هذه المعلومات أهمية خاصة في تحقيق التراكمية المعرفية في أي حقل من حقول المعرفة، وتؤدي إلى تطور العلم ذاته، من خلال ما توفره من قاعدة أساسية لبناء وصياغة الفروض والمفاهيم والتصورات والإحاطة بالمتغيرات المختلفة. بالإضافة إلى توفير قاعدة متينة لبناء النظريات.
3- إن صياغة المفاهيم والتصورات في ضوء المعلومات المتحصل عليها عبر المنهج التاريخي بالاعتماد على الوصف أساسا هي في جوهرها بناء نظري على أسس واقعية. بمعنى مساهمة العلم في معالجة مشكلات المجتمع الحقيقي، وملامسة واقع الناس. وهنا يكمن دور ووظيفة العلم في تطور المجتمعات الحديثة.
4- إن الوصف هو السبيل المناسب في بناء المقاييس والتصميمات العملية في دراسة وبحث الظواهر الاجتماعية المختلفة بالاعتماد على المؤشرات الإمبريقية، وقياس المتغيرات كميا.
