المقدمة
برز مفهوم التنمية البشرية كمفهوم تنموي منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وقد جاء هذا المفهوم نتيجة طبيعية لفشل المفاهيم السابقة في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، يأتي هذا الفشل في ظل إطلاق العنان لقوى السوق لأن تفعل فعلها دون ضوابط محددة، ودون النظر إلى انعكاساتها السلبية على الواقع الاقتصادي، سواء كان ذلك على مستوى سكان الدول المتقدمة، أم على مستوى العلاقة بين الدول المتقدمة والدول النامية، خاصة في ظل رزوح كثيرٍ من الدول النامية تحت
شروط وقيود برامج الإصلاح والتكيف الاقتصادي اللذان يتبناهما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وقد طرحت الكثير من النظريات في السابق لحل هذه المعضلات، ونتيجة لفشلها كان لا بد من الرجوع إلى الأساس في كل نشاط في هذا الكون، ألا وهو (الإنسان).
(والتأكيد على أهمية الإنسان وتكريمه وتفضيله على سائر المخلوقات يعتبر من القضايا الأساسية التي تُعَدٌّ من مكونات الفكر العربي الإسلامي الأصيل، كيف لا وهو مَناط التكليف في عمارة الأرض وعبادة الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي سخر الله عز وجل له مخلوقاته الأخرى ليكون مخلوقاً إيجابياً في الحياة الدنيا، يَعْمُرها فيما يرضي الله تبارك وتعالى، ويختار من العمل أَحْسَنَه، فتكون النتيجة حياة سعيدة في الدنيا، وفوزاً عظيماً في الآخرة، كما قال تبارك وتعالى ” تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين ” [القصص: 83].
فمجتمع السِلْم يأبى الظلم “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة” [البقرة: 208]، ومجتمع العلم يتصارع مع الجهل ” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ” [الزمر: 39]، والعمل يناقض الكسل “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” [التوبة: 105]، والشورى تناقض الاستبداد ” وأمرهم شورى بينهم ” [الشورى: 38]، والعدل والاعتدال يناقضان العدوان والاستكبار ” وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ” [البقرة: 143].
وفي عودة الفكر العالمي إلى الإنسان…… عودة إلى رحاب فكرنا وإنسانيتنا، عودة إلى نموذج للتنمية نمتلك مقومات المساهمة الفاعلة في صياغة فلسفته وبنائه الفكري ومفاهيمه وأدواته، تنمية تستنهض واقع أمتنا لنتواصل مع مستقبل عالمي أفضل تضمن فيه جميع المجتمعات حقوقها، مثلما تتحقق لأفرادها الحياة اللائقة الكريمة) (*).
ويأتي هذا الكتاب ليبين ريادة الإسلام في التأكيد على العناصر الإيجابية في أدبيات التنمية البشرية المستدامة، وابتعاده عن السلبيات التي ألصقت به لإفراغه من مضمونه الإيجابي، فنبل الغاية تتطلب نبل الوسائل، وسعادة الإنسان لا تكون إلا من خلال التزامه بمنهج الله تبارك وتعالى أولاً وأخيراً ” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه ترجعون ” [الأنفال: 24].