المقدمة
التربية والتنمية والتخطيط من أبرز المفاهيم التي حظيت باهتمام متعاظم حتى باتت الهم الشاغل لجميع الدول والمنظمات والأفراد، وتستحوذ على جل أنشطتهم. والتربية والتنمية والتخطيط ليست غايات بحد ذاتها، وإنما هي أساليب متداخلة ومتكاملة لعمليات ضخمة مترابطة ومتفاعلة، هدفها الأسمى وغايتها الأخيرة رفع مستوى معيشة الفرد والمجتمع، وتحسين أحوالهما.
فإذا كانت التنمية عملية مجتمعية شاملة تستهدف الاستخدام الرشيد لكل موارد المجتمع المتاحة البشرية منها والمادية، وما يتطلبه ذلك من تحولات هيكلية في البنى الاجتماعية الاقتصادية، بقصد تحسين نوعية الحياة، وإذا كانت التربية هي العملية التي يتم بمقتضاها تنمية قدرات الأفراد واستعداداتهم وإكسابهم القيم والأفكار والاتجاهات، ليمارسوا أدوارهم بكفاية وفعالية، وبما يمكن من تحقيق أهداف التنمية، فإن التخطيط هو الأداة التي يتم بمقتضاها التوجيه والتحكم في مجريات هذه العملية وضبطها وفقاً لأولويات وبدائل، وتنظيم الأنشطة وتعيين مجالات ا لحركة والعمل، وذلك بقصد الاستغلال الأمثل للموارد، وبما يمكن من تحقيق علاقة الترابط المنسجم بين العمليات الداخلية والخارجية، وكذا تحقيق التفاعل المتكامل والمتوازن في ضوء شبكة العلاقات القائمة بين التربية والتنمية، أو بينهما وبين كافة أنظمة المجتمع.
ومن التخطيط القومي نشأ التخطيط ا لتربوي مرتبطاً به أشد الارتباط، فالتخطيط القومي إذا كان هو أداة التنمية فإن التخطيط التربوي يعد من أهم عناصر تحقيقها على أرض الواقع، كون التخطيط القومي يترجم في صورة مشاريع ومصانع ومؤسسات…الخ، في حين يترجم التخطيط التربوي في صورة أعداد من المهارات والمهن والكفايات المختلفة التي تتولى تنفيذ المشاريع والمصانع، وتتحمل تسيير المهام والأعمال التي مكنتها معارفها ومهاراتها التي اكتسبتها من التعليم من الأداء ا لدقيق والإنجاز الكفء. وعلى قدر تأهيل تلك المهارات والكفايات وتنمية قدراتها وطاقاتها واستخدامها بطريقة مثلى يتوقف مستوى تنفيذ خطط التنمية ودرجة نجاحها.
يعيش عالمنا المعاصر ولا سيما دول العالم الثالث ظروفاً بالغة التعقيد، يصعبب -وربما يستحيل- ترك الأمور على عواهنها، وترك التطور للنمو التلقائي تتحكم فيه الظروف والأحداث، وتتجاذبه القوى والمؤثرات المختلفة التي لا يمكن عندها معرفة مسار النمو أو التطور أو التكهن بمدى انحرافه، وقربه أو بعده عن الأهداف المرغوبة، أو التوقع بالنتائج المتوخاه. والثابت أن إجراء كهذا إلى جانب الاستخدام المسرف لموارد وطاقات المجتمع لهو طريق غير مضمون العواقب، وبالتالي طريق خاسر في كثير من الأحيان.
إن التحدي الأكبر الذي تواجهه المجتمعات هو كيف تستطيع أن تستخدم كل مواردها وإمكاناتها المتاحة وتستثمرها بأفضل الطرق وأكفأ الأساليب لتحقيق أكبر عائد مجتمعي وفردي، وتحقيق أهداف المجتمع في التنمية والتقدم. ذلك هو التحدي الذي يواجه مجتمعات العالم الثالث على وجه الخصوص نظراً لشحة مواردها الطبيعية وارتفاع تكاليف استغلالها، وما تعانيه من ظروف سياسية واجتماعية غير مواتية، وخضوعها لتأثيرات سالبة من مختلف الأنواع.
لذلك وغيره فقد استلزم الاسترشاد بالتخطيط كمنهج وأسلوب للعمل المنظم من أجل الاستغلال الأمثل للموارد والطاقات والتحكم والضبط في عملية الإنماء وتوجيهه نحو المسارات المرغوبة والأهداف المنشودة بالصور الملائمة لكل مجتمع.
لقد بات في حكم المؤكد أنه لا خيار بين الأخذ بالتخطيط وعدم الأخذ به، فقد صار أداة فعالة لا يمكن الاستغناء عنها أو القيام بالأعمال العظيمة، أو ربما البسيطة بدونها، غير أن الخيار المطروح هو ما نوع التخطيط الذي يلائم هذا المجتمع وفقاً لأيديولوجيته السياسية والاقتصادية، وظروفه، ومشكلاته؟ وما المدى الذي يتحرك داخله، والمستوى المراد إحداثه، والأهداف المرغوب تحقيقها؟
وإذا كان التخطيط القومي ضروري للتنمية الشاملة، فهو أكثر ضرورة للتربية كونه يتولى تنمية القوى البشرية التي يقع على عاتقها تنفيذ خطط التنمية، والمشاركة في تنفيذها، إلى جانب ما يوفره من إمكانية لاستغلال موارد التربية، وتحقيق عمليات التفاعل المتبادل بين مكونات التربية، أو بينها وبين نظم المجتمع، وبما يؤدي إلى رفع مشاركتها الإيجابية في تحقيق التنمية والتقدم.
وتؤكد نتائج الخبرات التخطيطية والدراسات أن أي مجتمع يستطيع أن يضع الوسائل والإجراءات الكفيلة بتوثيق العلاقات الحميمة بين تخطيط التربية وتخطيط التنمية، وتحقيق التكيف المستمر بينهما، وذلك من خلال وضع أهداف تربوي مشتقة من أهداف التنمية القومية التي تؤدي إلى ربط نمو التربية المواكب لحاجات التنمية، بحيث يسعى تخطيط التربية والتعليم إلى تنمية القوى البشرية اللازمة لخطط التنمية.
ومن هذا المنطلق ، تستطيع البلاد التي تضخم نظامها التعليمي، أو التي لم يكتمل بعد، أن تؤسس مدخلاً مناسباً لتخطيط التربية، بحيث تتمكن من خلال توفير الحد الأدنى من القوى العاملة بالكم والكيف، والوقت والمكان المناسبين من استخدامها على خير وجه.
إن الحفاظ على الثروة البشرية وتنميتها أبلغ أثراً وأكثر أهمية من أي ثروة أو مورد طبيعي، لأن ما يعتبر ثروة يتوقف على ما يملكه الأفراد من مهارات وخبرات، وما يبذل من جهد لاستغلال هذه الثروة والاستفادة منها.
ومن جهة أخرى فإن تنمية الثروة البشرية وتكوين المواطن المنتج والمستنير لهو أشق من بناء المصانع أو إقامة العديد من المشاريع.
لذلك تضاعف الاهتمام بتخطيط التربية ليس لتنمية الموارد البشرية وتجديد التعليم وتحسين نوعيته، وجعله أكثر قدرة على الوفاء باحتياجات خطط التنمية أو التكيف مع المجتمع ومتطلباته فقط، بل وإمداد الفرد بوسائل تحسين وضعه وتحسين الأحوال الاجتماعية والثقافية والسياسية العامة التي تسانده ليس في دعم التخطيط ورفع كفايته في تحقيق أهدافه فحسب، وإنما أيضاً في دعم التطوير والتقدم بصفة عامة.
تلك مسلمات بديهية لأهمية التخطيط وضرورة الاسترشاد به، إذ أصبح التأكيد عليه نوعاً من التكرار الممل، لأن الاقتناع بات شبه كامل بأن إحداث تغييرات ما في حياة المجتمعات المعاصرة بدون التخطيط يعتبر ضرباً من المحال، كما أن التهاون به أو عدم الدقة فيه لن يؤدي إلى النتائج المرجوة منه، وربما يكون جهداً ضائعاً، وهدراً لأغلى ما يمتلكه المجتمع من ثروات وموارد.
ليس المقياس فيما تختاره الدول من نماذج تخطيطية، وإنما فيما تختاره من أنواع ملائمة تناسب ظروفها، وتحقق طموحها، وما تيسر له من مقومات، وما تتبعه من سياسات ..الخ تكفل له سبل النجاح، فالسمة التي تميز عصرنا هي السرعة والدقة في الأداء والإنجاز، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتخطيط ينظم الأعمال ويوحد الجهود ويحدد المسار والهدف.
ومضات خاطفة لمواضيع وقضايا يناقشها هذا الكتاب الذي يضم بين جنباته ثمانية فصول رئيسية تستعرض الفصول الثلاثة الأولى، إشكالية التخلف في دول العالم الثالث، مظاهر ومؤشرات تدل عليه وتعينه، وتحدد الأسباب المؤدية إليه أو المفسرة له، وكذا مناقشة مقولات التنمية واستراتيجية التنمية البديلة الملائمة للعالم الثالث، كما يقترحها مفكرو واقتصاديو هذه الدول، ثم يتناول الفصل الرابع إبراز طبيعة العلاقة الدينامية الجديدة بين التنمية والتربية، ومرتكز جعل التربية مدخلاً لإطار تنموي جديد، يلعب التخطيط التربوي الدور الحاسم في تجسيد تلك العلاقة وتحقيق تلك الغاية.
وتستعرض الفصول الأخيرة من الخامس إلى الثامن مختلفة جوانب التخطيط، فيتناول الفصل الخامس نشأة التخطيط العام وتطوره، ومبرراته، ومعناه وفحواه، ثم رصد وتحليل أنواع التخطيط التي استقرت في أدبيات الفكر التخطيطي، بينما يعالج الفصل السادس والتخطيط التربوي ومحاور بنائه فكراً ومنهجاً، وتصميماً، وتطبيقاً.
ويناقش الفصل السابع المداخل العلمية والعملية للتخطيط التربوي التي تمثل قاعدة ارتكاز هذا التخطيط، والدليل العملي لمسار توجهه نحو بلوغ الأهداف الملقاة على عاتقه.
ويستعرض الفصل الثامن والأخير تقنيات التخطيط التربوي باعتبارها الأساليب الفنية التي إذا كانت تصور الواقع وتتنبأ بسير الظواهر والتعبير عنها كمياً فإنها تنظم عمليات التخطيط وترتيبها منطقياً مكانياً وزمانياً.
… هذا، ولي أمل كبير في أن أكون قد وفقت في استعراض ومناقشة أخطر القضايا التي تشغل مجتمعات العالم الثالث بخاصة، والهم الأكبر لحكوماتها وشعوبها، وأن أكون قد أسهمت في معالجة جوانب هذه القضايا، واستجلاء مفاهيمها، وإبعاد تأثيراتها، بما يساعد على رؤية الحركة والعمل واستبصار المستقبل وسبر أغواره.
والله ولي التوفيق
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
أ.د. أحمد علي الحاج
