الإسلام والغرب دراسة في نقد الاستشراق

تقديم
ليس من السهولة بمكان أن يتصدى باحث أو أكاديمي عربي لمعالجة قضية الاستشراق القضية الشائكة والمعقدة في علاقة الإسلام والعرب من جهة والغرب من جهة أخرى لإشكاليات ومصاعب جمة من بينها إجادة عدد من اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية، والثقافة الواسعة بالبيئة الحضارية والخلفية التاريخية العربية عبر التاريخ، والظروف السياسية والدوافع الامبريالية للغرب في توجهاته نحو الشرق والعالم العربي خاصة، وغيرها من إشكاليات. ومن هنا برز الباحث والدكتور الزميل ناصر عبد الرزاق ليستوعب هذه المتناقضات، ويتجاوز الإشكاليات، ويقدم نموذجا للباحث العربي المثقف “غير المؤدلج” والقادر على أن يقرأ للآخر دون تعصب أو عقد أو نظرة مسبّقة، وفي المقابل ليتسلح بالعقلية التاريخية “غير النمطية” مما يتلاءم مع المستجدات في الأدوات والمنهجيات الغربية الأكاديمية المتقدمة.
وهو منذ أن تفوق على زملائه في البكالوريوس شق طريقه لاستكمال رسالة الماجستير تحت إشراف عالم جليل ومؤرخ قدير الأستاذ الدكتور جزيل عبد الجبار الجومرد وليختارا معاً دراسة موقف الاستشراق من سيرة البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي، وكانت دراسة علمية قيمة بشهادة اللجنة المناقشة رفيعة المستوى وجميع من قرأها من متخصصين. ثم تابع مشواره مع عالم الاستشراق ليستكمل تحصيله الأكاديمي في أطروحته للدكتوراه عن سيرة الرسول e من خلال دراسة هاملتون كب للتاريخ الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية برؤية تاريخية ومنهجية تحليلية علمية ونال بها درجة الشرف الأولى باستحقاق وجدارة من لجنة المناقشة العلمية أيضاً.
وفي قسم التاريخ بجامعة الموصل تدرج الملا جاسم ليصل إلى أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد يتجول بين حقول التاريخ والحضارة العالمية من تدريس النهضة الأوروبية إبان العصور الوسطى (ما بعد القرن الخامس عشر الميادي)، والخلافة الراشدة، والعصور الوسطى الأوروبية (ما بعد عام 476م.) ومادة النصوص الإنكليزية التاريخية في الدراسات الأولية والعليا.
وتأتي هذه الدراسات لتمثل حصيلة عقد من الزمن كرس فيها الملا جاسم جهوده في نشر البحوث والمقالات حول الاستشراق من حيث التحدي الاستشراقي للعرب والإسلام وبالعكس، ومدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن ودورها في تعزيز الدراسات الشرقية لدى الباحثين الغربيين منذ أكثر من قرن من الزمان. ثم الاتجاهات التبشيرية لمجلة العالم الإسلامي الشهرية ودور المبشر صموئيل زويمر في تأسيسها وإدارتها (Muslim World) ونشاطاتها من الهند إلى الخليج العربي والعراق بكل صنوف الدراسة والكشف السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية والاقتصادية.
أما الاستشراق الإنجليزي والذي كان له دور فعال منذ القرن التاسع عشر، وقد عالجه الباحث حتى الحرب العالمية الثانية بحثا تاريخيا وتتبعا استكشافيا دقيقا. ثم توقف عند المبشر وليم ميور في نشر التبشير في الهندي، وميور أحد أبرز الاستشراقيين البريطانيين في النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، وحصد شهرة واسعة بحكم مؤلفاته في التاريخ الإسلامي وخاصة كتابه “حياة محمد” عام 1861 في طبعته الأولى علما أنه صدر بعدة طبعات بعد ذلك. وكان ميور محط دراسة أخرى من الملا جاسم في مقارنة تاريخية استشراقية مع ماركوليوث في تصيهما لدراسة السيرة النبوية ومصادرها الرئيسية من القرآن الكريم والحديث الشريف وسيرة ابن إسحاق ومغازي الواقدي، واستعراض أسلوب كل منهما في معالجة غزوات الرسول الكريم وزواجه وقضايا أخرى محط اهتمام وتشكيك أغلب المستشرقين.
أما صلاح الدين الأيوبي ذلك البطل المسلم الذي كانت شخصيته وسيرته محط تجاذب المستشرقين وتجني الغالبية منهم، فقد ناقشها الملا جاسم في أكثر من دراسة سواء في القصص الرومانسية الفرنسية والإنكليزية بعد صلاح الدين الأيوبي واحدا من أبر الشخصيات الشرقية والإسلامية في أوروبا في العصور الوسطى، وفاقت شهرته ما كان لكثير من ملوك أوروبا في ذلك الوقت. ثم تصدى الباحث لموقف المستشرق الإنكليزي الشهير هاملتون كَب من صلاح الدين الأيوبي، سيرته وشخصيته كمحرر للقدس، ورصد فيها الباحث الإضافة التاريخية لكَب في دراسة هذا الموضوع، وسموه فوق أفكار بيئته، ودرجة اقترابه من الرؤية الإسلامية، وأخيراً البيئة الاستشراقية من طروحاته.
ولم يتوقف الملا جاسم عند هذا الجانب من رؤى المستشرق كَب بل بحث في دراسته العامة للإسلام دينا وفكرا وممارسة، ومحاولته تجسير الفجوة بين الشرق والغرب، ومحاولته توصيف الإسلام للقراء الغربيين مع كل ما يحمل هذا العمل من مهمات شاقة وشائكة رغم ما يرافق العمل من نوايا حسنة ونزاهة فكرية.
وأخيراً يقف الباحث عند رؤى مستشرقين بريطانيين بارزين دافعا عن الإسلام بحرص وجدية رغم أنهما غابا عن الساحة العربية والإسلامية، وارتفع صوتهما عن الإسلام رغم ما تحملاه من وزر ذلك من أبناء جلدتهما. فكانت وقفة ذكية وربما من أوائل الدراسات العربية عن اللورد هيدلي ومحمد مارماريوك بكتال المسلمان البريطانيان.
وهكذا تجول الملا جاسم عبر أطياف الاستشراق المختلفة ليضع منهجا نحن بأمس الحاجة إليه يستند إلى العلمية والموضوعية من جهة، والإيمان بالعقيدة الإسلامية ومكانة العرب والإسلام والمسلمين في الحضارة الإنسانية دون تحامل أو مزايدة أو مكابرة، ولا دونية أو منقصة. نرجو أن تكون هذه الدراسات سبيلاً من الباحثين وطلبة العلم والمحبين للحقيقة دون زيف أو تزوير، مع تمنياتنا للملا جاسم بالمزيد من البحث والتأليف في ثنايا ومجاهل الاستشراق.
الدكتور مفيد الزيدي
عمّان- الأردن