الرؤى الثورية في القصة والرواية – قراءات نقدية في نماذج مصرية

المقدِّمة
حمدًا لله على نعمائه، وصلاةً وسلامًا على خاتم أنبيائه … وبعد :
فقد فاجأ المصريون العالم بثورتهم التي كتب الله لها النجاح، وانهار النظام المستبد …. وكان الله غالبًا على أمره.
ولم يكن الأدب بعيدًا عن هذا المشهد الثوريّ العظيم. فقد كان الأدب – من قبل – يرصد الواقع الأليم ناقدًا ومُنوِّهًا ومحفِّزًا للثورة، وكان الأدب – من بعد – راصدًا للثورة، محذرًا من أعدائها، دافعًا لإكمال المسيرة.
لم يكن الأدب – بحق – بعيدًا عن المشهد، فثمة أدباء ثائرون كغيرهم من المصريين، يجعلون من الأدب أداة للثورة والكفاح؛ ويعيدون بناء الواقع الأليم في أدبهم بحيث يُقِّدم رؤية للواقع تندد بالظواهر السلبية و تحفِّز للثورة.
ونحن إذ نشهد بذلك علينا أن نشهد – أيضًا – بأن الأدب لم يكن المُحرِّك الأول ولا الأوحد للثورة، فقد مضى ذلك الزمن الذي كانت القصيدة فيه كافيةً لإشعال حرب، وقمينة بإسقاط حكومة؛ لأن الأدب المقروء – حقيقةً – ليس هو المتسيِّد للموكب الثقافي، فالرأي العام يخضع كثيرًا للإعلام الإخباري، وبرامج القنوات الفضائية، والتمثيل التلفزيوني والسينمائي، وما هو غير ذلك من الفنون. كل هذه الفنون الحديثة صارت تعبئ الناس وتحفِّزهم وتثيرهم وتوجههم نحو الثورة أو الخمول أو المهادنة واتقاء شر السلطة… إلخ . لقد صارت كل تلك الفنون تعيش مع الناس معيشة دائمة تخاتل حينًا فتكذب لصاحب السلطة، وتصدق حينًا فتفضحه، والناس بين هذا وذاك يتخبطون أو يهتدون، يتدبرون أو يتعجلون، لكنهم في النهاية يتخذون موقفًا تلعب فيه هذه الفنون الإعلامية دورًا غير مجحود.
ونحن – بالطبع – غير معنيين في هذا المقام بدراسة تلك الفنون الإعلامية، وغير معنيين – أيضًا – بالانتصاف للأدب منها، لكننا نود أن نقول إن للأدب دورًا لا ينتقص من شأنه مناطحة هذه الفنون الإعلامية له، فهي لم تكن لتنشأ أو تقوم لها قائمة لولا الكلمة الأدبية التي تُقَدَّم لتكون مادةً لها؛ فالأدب هو صانع كلماتها الإعلامية، وصانع قصتها المُمَثَّلة، وصائغ القول الإخباري الذي تذيعه، أما هي فتقدِّم الأدب في ظرف جديد وطريف يحقق له جماهيرية أكبر.
والأدب المقروء – من ناحية أخرى – هو فن النخبة المثقفة. وهذه النخبة المثقفة هي صاحبة المُبادرة إلى تجييش الجيوش للمواجهة والاعتراض والرفض والتحدي. فالأدب – إذن – صانع الثورات دون أدنى شك. أجل إن معاناة الناس وإحساسهم بالظلم هو الباعث الأول للثورة، غير أن الأدب يهيج هذا الباعث ويستحثه ويثيره ولا يفتأ يحرك كوامنه حتى تستجيب الجماهير.
وقد آثرنا أن نقدِّم دراسة نقدية لبعض الأعمال الأدبية التي تعرَّضت للثورة قبل وقوعها، بمعنى كون هذه الأعمال الأدبيّة ناقدةً للواقع الاجتماعي المتأزم ، وبالتالي داعية إلى الثورة ومحفِّزة لها. وآثرنا أن تكون هذه الأعمال الأدبية من فني القصة والرواية تحديدًا؛ وليس في هذا التحديد أدنى تقليل من شأن الفنون الأدبية الأخرى وعلى رأسها الشعر؛ وإنما هذا التحديد ضرورة منهجية يقتضيها إحكام الدراسة.
وكان أن اخترنا نماذج أُبدِعت ما بين عامي ( 1981م – 2011 م )، وهذه الفترة ذات مغزى – بالطبع – فهي فترة حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ونحن معنيون بالأدب الثائر والأدباء الثائرين الذين تعرضوا لفترة حكمه دون غيرها؛ لأن هذه الفترة هي التي أفضت بالشعب المصري إلى ثورته العظيمة التي نكتب دراستنا هذه احتفاءً بها.
وكان لزامًا على هذه الدراسة أن تقدِّم نماذج محدودة ومتنوعة في آن واحد، محدودة لكي نستطيع التعمّق في دراستها، ومتنوعة لتكون شاملة لكل الأجيال الأدبية، ومن ثمّ بدأنا الدراسة بنماذج من أعمال الأديب الكبير نجيب محفوظ ( توفي: 2006م ) الذي يُعدُّ من رواد الرواية والقصة المصريّة، وقد كان نجيب محفوظ في بداية أعماله الصادرة خلال فترة حكم الرئيس السابق يعقد أملاً كبيرًا على شخص الرئيس، ثم بدأ في انتقاد الحكومة بشكل بسيط، لكنه في أعماله الأخيرة، وعلى الأخص آخر ما كتب : أحلام فترة النقاهة 2004م انتقد بشكل كبير وأبدى مخاوف خطيرة وتنبأ بالثورة وإن كان متخوفًا من عواقبها.
ثم قدمنا نموذجين من جيل الوسط هما : علاء الأسواني ، ومحمد سلماوي، وكان الأسواني في كل أعماله صاحب رؤية ثوريّة ناقدة للمجتمع بشكل حاد، رغم أنه في هذه الأعمال كان يائسًا تمامًا من ثورة المصريين. أما محمد سلماوي فقد قدمنا دراسة نقدية لروايته أجنحة الفراشة التي تنبأت بالثورة، وقدَّمت أحداثًا شبيهة بما حدث على أرض الواقع بالفعل. وقد استطاع بحسه الأدبي قراءة الوضع الراهن واستشراف المستقبل الثوريّ من خلال رصده لمجريات الأمور.
وأخيرًا قدمنا نموذجين من جيل الشباب الناشئ، أولهما الصحفي : ياسر سليم ، ثم الأديب محمد عمرو الجمَّال، وعرضنا دراسة نقدية للرواية الأولى في حياة كل منهما، رواية ياسر سليم : الحية تقدم رؤية نفسية لضبّاط أمن الدولة رجال النظام وجلاديه، ورواية عمرو الجمَّال : قميص سماوي تعرض لواحد من ضحايا هذا الجهاز البوليسي القمعيّ، خلال رؤيتها لطبيعة العلاقة بين السلطة والمثقف.
وكان عرضُنَا للرؤى الثورية عند هؤلاء الكُتَّاب فيما كتبوه من قصص أو روايات مشفوعًا بالكشف عن رؤيتهم الفنيّة، وكيفية إبرازهم للقضيّة الثورية التي يؤمنون بها من خلال رؤية فنية جمالية. فليس بالضرورة أن يكون الأديب صاحب قضيّة عظيمة لكي ينتج أدبًا عظيمًا. وسموّ القضية لن يشفع للقاص حين يكون عمله ساقطًا من المنظور الفني والجمالي. وقد قدَّمنا لدراستنا هذه بمدخل حول طبيعة الرؤى في الفن القصصي، وضرورة اقترانها برؤية فنية.
بقيت إشارة أخيرة تتعلق بطبيعة الدراسة النقدية عمومًا، إذ لم تكن دراستنا هذه دراسة معيارية؛ ولا نسعى – أبدًا – لأن تكون أي دراسة نقدية نقدمها دراسة معيارية؛ فليست مهمة النقد وضع الموازين وتطبيق القوانين على العمل الأدبي، ثم الحكم بالصحة والخطأ. إن اعتبار الحكم بالصحة أو الخطأ، ووضع قوانين صارمة للعمل الأدبي لا يجب أن يتخطاها هو – أصلاً – قصور في فهم وظيفة النقد.
إن العمل الأكثر إفادة للنقد الأدبي هو العمل التطبيقي الذي يكشف عن جماليات الأدب ويعين القارئ على تذوقه وفهم مغزاه. ويكشف له عن أساليب القراءة التي تحقق المزيد من القدرة على اكتشاف الممتع المجهول. وأتمنى أن تكون دراستي من هذا القبيل .
والله ولي السداد والتوفيق

د. أحمد كُريِّم بلال
القاهرة
[email protected]