المقدمة
لعل من أكثر المصطلحات إثارة للجدل في نفوس البشر، بعد الأديان والمعتقدات، مصطلح الضريبة، المرتبط ارتباطا عضوياً في المال، الذي يحمل أهمية لا يكاد يعادله بها أي شيء أخر.
فالقران الكريم يقول: (المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا……) ، ونرى هنا أن القران الكريم قدّم المال على جزءٍ من النفس (الأبناء)، وأعتبره زينةً للحياة الدنيا، ولا تكون الحياة مُتصفة بصفة الزينة إلاّ بنظر من يمتلك المال، لأنه يُمَكّنَهُ من التمتع بكافة مقومات الحياة، وبهذا تكون الحياة زينة .
والقُرآن الذي قرر تقديم المال على النفس إنّما يضع قاعدة مطلقة لا تتأثر بمكان أو زمان، بماضٍ أو حاضر أو مستقبل، بنظر غني أو فقير، من عالم أو حقير، بأن المال يحتل وبجدارة المكانة الأولى عند البشر .
وكذلك نرى أن الشارع جعل المال من ضروريات الحياة، حيث يُوصف بأنّه من الضروريات الخمس، وهي ( الدين، النفس، العقل، النسل، المال)، والمال هو الضرورة الوحيدة من بين الضروريات الخمس الذي يحمل ويتصف بصفة مادية، على خِلاف الضروريات الأربع الأُخَرْ، وهذه الصفة تجعل منه الضرورة الأقرب للنفس بحكم ماديتهُ الملموسة، فطبيعة البشر تفضل الشيء الملموس على غير ما هو كذلك.
والمال بهذه الصفات يُصبح عَصبُ الحياة وشاغل الناس ورحيق الأحلام، ومنطق النفوذ، وبوابة الأمن الحياتي والمستقبل الأُسري، وهو الطاقة المتدفقة في شرايين الاقتصاد العالمي والمحلي، سواء كان على مستوى الأفراد أو الشركات أو الدول .
يدفع بقوى العمل إلى الأمام، وبه تُبنى الأمم والشعوب، وتتحقق الآمال والطموحات، وتتم المشروعات وتُوَقع العقود ويبدأ العمل، وعلى أساسه يكون أي تخطيط مستقبلي .
وبهذا يكاد يكون المال إلهٌ يعبُد من دون الله عند الكثير من الأمم والمجتمعات .
ومن هنا يظهر لنا أن أهمية مصطلح الضريبة تَنبُع من ارتباطه الوثيق بأكثر الأشياء قرباً للنفس البشرية. وكذلك من كون الضريبة من أهم الأدوات لدعم الموازنة والاقتصاد المحلي في العصر الحديث.
وفي بحثنا الموسوم بالأسس الفلسفية للضرائب، سنحاول وضع تعريفات محددة للعنوان لتكون منطلق لنا في بحثنا هذا .فالعنوان يتكون من ثلاث كلمات تحتاج كل منها لتعريف لغوي وأخر اصطلاحي للوصول للمعنى المراد من العنوان.
فالأُسس لغةً : هي جمع أساس، والقاعدة في اللغة يُقال عنها أساس، والأساس يُقال عنه قاعدة، فهما كلمتين مختلفتين في المبنى متفقتين في المعنى، فالأساس كل مايرتكز عليه وهو لا يرتكز على غيره، فهو أصل ولا يكون له أصل، فهو بهذا المعنى القاعدة التي ينشأ عليها البنيان، والأرض الحاضنة للإنسان (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) .
أمّا اصطلاحاً : فالأساس هو القاعدة الفكرية التي يبنى عليها المنهج التطبيقي، والمعنى العملي للمصطلح .
أمّا الفلسفة لغةً : فهي لفظ يوناني مُركب من جزأين هما : فيلو بمعنى حب أو محبة، وسوفيا بمعنى الحكمة، وتحمل بتركيب اللفظين معا،معنى حب الحكمة والمعرفة .
أمّا اصطلاحاً : فلقد حملت معانٍ كثيرة منها: علم حقائق الأشياء، والعمل بما هو أصلح، وعّرفها الرياضي والفيلسوف المشهور فيثاغورث: بالمعرفة العقلية الراقية، وفي تعريف أخر هي: البحث في ماهية الأشياء وأصولها، وعلاقتها بعضها ببعض. ويُعّرفها فلاسفة الإسلام على أنها الرغبة في معرفة الحقائق .
وحسب تعريف الفلسفة الحديثة لها فإنها : تقنية بحتة ترتكز على التحليل المفهومي، وهي بهذه التعريفات كافة بمثابة أم للمعرفة والأساس النظري لكل فرع من فروع العلوم .
أمّا الضريبة لغةً : فهي مؤنث الضريب، وهو الرأس، والموكل بالقداح، أو الذي يضرب بها.
أمّا اصطلاحاً :فهي اقتطاع مال يدفعه الأفراد الطبيعين والمعنويين إلىالدولة جبراً أو بطريقة إلزامية وبصورة نهائية مساهمة منهم في التكاليف والاعباء العامة ودون أن يعود عليهم بمنفعة خاصة مقابل دفع الضريبة.
ومن هنا نستطيع أن نخرج بتعريف عام للعنوان :بأنّه مجموعة النظريات والقواعد والمبادئ والمرتكزات التي تبرر بموجبها فرض الضرائب، وتحصيلها من المواطنين الطبيعيين والمعنويين.
والأساس الفكري للضرائب في بداية تَشَكلهُ كان يُعالج الضرائب على أنها مساهمة طوعية يدفعها المواطن أو هدية يقدمها .
فلقد كانت الضرائب ليست ذاتُ بالٍ لإعمال الفكر بها ووضع إطار نظري لها، واستمرت الحال على ذلك فترة طويلة من الزمن، حيث امتدت حتى بداية تشكل الدول وما نتج عنه من حاجات أساسية لتلك الدول للقيام بواجباتها، فهي بحاجة لإيراد لمقابلة النفقات المختلفة، ولقد كانت الدول في البداية لا تحتاج لكثير من النفقات، بالإضافة لتمويل نفقاتها تلك من مواردها الخاصة، وبالتالي لم تكن الضرائب تحتل أهمية في ذلك الوقت، ولكن مع تطور الحياة وما واكبه من تطور على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوسع نفوذ سلطان الدول وتشعب اختصاصاتها، وزيادة مهامها، أصبح ذلك كله يتطلب المزيد من الإيراد لمقابلة النفقات المتزايدة، فقد أصبحت موارد الدول الذاتية تتناقص بدرجة لم تعد بها قادرة على الوفاء باحتياجات الدول .
من هنا أصبح الاهتمام بالضريبة يتزايد باعتبارها المصدر الرئيس لإيرادات الدولة، وكما أسلفنا سابقا فإن الضريبة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمال، وهي قائمة على استقطاع جزء من هذا المال من المواطنين .ولتبرير هذا الاستقطاع كان لابد من ظهور أفكار ومبادئ ونظريات تُبرر هذا الاستقطاع، وتجعله مُستساغاً من قبل المواطنين.ولقد انبرى الكثير من الفلاسفة والمفكرين لوضع نظريات تصلح لأن تكون أساساً مقبولاً لهذا الاستقطاع .وبدأت تظهر الكثير من النظريات والأسس والمبادئ التي قامت لتبرير فرض الضرائب.
ولقد اختلفت هذه النظريات والأُسس والمبادئ باختلاف واضعيها، واختلاف الزمان والمكان وكذلك باختلاف الغاية منها، فلقد كانت الغاية التي وضعت من أجلها النظريات سابقا غاية مالية بحتة، ومع التطور والتقدم الذي يطرأ على حياة البشر أصبحت الغايات والأهداف متعددة، وبالتالي حاجة تلك الغايات لمبررات تعطيها شرعية الوجود، وبهذا تعددت الأُسس والنظريات الفلسفية التي قامت لتبرير تلك الغايات والأهداف .
مشكلة البحث:
تتلخص مشكلة البحث في صعوبة معرفة الأساس النظري الفلسفي المناسب لفرض الضريبة، حيث تعددت النظريات والفرضيات التي حاولت معالجة الإطار النظري لفرض الضرائب وكذلك عدم الإنسجام بين الإطر الفكرية للضريبة والبنية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع وغموض الإطار النظري للكثير من الأنظمة الضريبية المعاصرة وعدم تحديد الإطار النظري المناسب للنظم الضريبية في كثير من الدول مما يؤدي إلى عدم نجاعة هذه النظم وأيضاً نُدرة الدراسات والأبحاث التي حاولت معالجة الموضوع بشكل شامل أو عدمها.
أهمية البحث:
تنبع أهمية البحث من معالجته لمجموعة مختلفة من النقاط :
– التعرف على التطور التاريخي للضرائب .
– معرفة أهم الأُسس والمبادئ والنظريات التي عالجت هذا الموضوع عبر التاريخ.
– معرفة تركيبة النظم الضريبية الحديثة وتنظيمها .
– التعرف على الأسس النظرية الذي قامت عليها النظم الضريبية المعاصرة.
– التعرف على أهم أنواع الضرائب التي يتشكل منها النظام الضريبي .
– استعراض مجموعة من النظم الضريبية العالمية القائمة على أُسس أيديولوجية مختلفة.
أهداف البحث:
– يستهدف بحثنا هذا تجميع مُتفرق الأشتات على أُسلوب صحيح، فالنظريات الضريبية تتفرق بين الكتب والمراجع والأبحاث، بحيث يستحضر الكتّاب والباحثون ما يُعينهم على أبحاثهم وكتاباتهم من تلك النظريات والأُسس، بحسب الكتاب أو البحث المراد القيام به، فتلك النظريات والمبادئ تُوجد في مُقدمات الكُتب والأبحاث بشكل مُتفرق يخدم غاية الكتاب أو البحث، وببحثنا هذا استهدفنا جَمع لِمام تلك النظريات والأُسس ببحثٍ يختصُ بها ويعرضُها بشكل مُتكامل ومُتناغم .
– كما استهدف هذا البحث التعرف على أفضل الأُسس الفلسفية التي تصلح لأن تكون قاعدة نظرية تلاقي القبول من المواطنين وتُلبي احتياجات الدول بنفس الوقت .
– كما يرنو هذا البحث إلى محاولة الوصول إلى أساس نظري جديد، أو توليد أساس جديد مما طُرح في هذا البحث. يصلح لأن يكون إطار نظري عام مقبول لفرض الضريبة في مختلف الدول.
– ويعتبر هذا البحث من الدراسات القليلة جداً التي تعالج الأُسس الفلسفية للضرائب بشكل شمولي، سواء على مستوى الأبحاث التي نشرت باللغة العربية،أو اللغة الإنجليزية،أو اللغة الفرنسية أو اللغة العبرية،حسب علم الباحث، حيث استفرغ الباحث جهده في البحث عن دراسات مشابهه لهذا البحث من حيث شموله فلم تُسعفه المكتبة العربية والإنجليزية والفرنسية والعبرية بذلك .
منهجية البحث:
سيتم إتباع المنهج الوصفي التحليلي في هذا البحث .
حيث اعتمد الباحث في دراسته على مجموعه من المراجع والمصادر نُفصلها فيما يلي :
1. الكتب السماوية (التوراة، الإنجيل، القرآن )،والمصادر التفسيرية لها .
2. المصادر التاريخية التي تناولت النظام المالي والضريبي لدى الحضارات السابقة والمعاصرة.
3. القوانين والأنظمة الضريبية للعديد من دول العالم .
4. المراجع القانونية والفقهية التي تناولت موضوع الضريبة .
5. الدراسات والأبحاث والمقالات العلمية التي عالجت الجانب النظري للضريبة .
حدود البحث:
1. الحد المكاني: تناول البحث الإطار النظري لفرض الضرائب على مستوى العالم.
2. الحد الزماني : تناول البحث موضوع الضرائب منذ الحضارات البشرية الأولى (الفرعونية والفارسية والرومانية ) إلى تاريخ كتابته بقدر الامكان والمتوفر .
محددات البحث:
– قلة عدد الدراسات السابقة التي تناولت هذا الموضوع .
– قلة ومحدودية المراجع ذات العلاقة .
– نُدرة المراجع التي تعالج الموضوع باللغة العربية، مما اضطر الباحث للجوء إلى المراجع باللغة الإنجليزية، وهي بمعظمها مقالات علمية مُحكمة متفرقة بالعديد من المجلات العلمية التي تعالج موضوع الضرائب، وخاصة النظريات الضريبية الحديثة.
الدراسات السابقة :
إنَّ الدراسات السابقة التي حاولت معالجة الموضوع قليلة للغاية وفي معظمها تصدت لجزيء محدد من الجزيئات دون طرح شامل لهذا الموضوع، ومن أهم هذه الدراسات :
1. Sijbren Cnossen, Theory and Practice Of Excise Taxation 2005م .
هذا البحث تقدم به أستاذ الإقتصاد سجبرن نوسين من جامعة كامبريدج عام 2005م .
حاول الباحث طرح أسس ومبادئ تعالج موضوع الضرائب غير المباشرة خاصة على المشروبات الكحولية وألعاب القمار والتبغ، حيث توصل الباحث إلى إطار نظري لهذا النوع من الضرائب يتضمن تحميل مستهلكي ومستخدمي هذه السلع تكلفة الآثار الخارجية الناتجة عنها على شكل ضرائب إضافية تُفرض على هذه السلع والخدمات .
2. Marco Battaglini, Stephen Coate, A Dynamic Theory of Public Spending, Taxation and Debt . 2007م .
هذه الدراسة عبارة عن بحث قام بنشره أُستاذا الإقتصاد من جامعة كورنيل ماركو باتاجليني و ستيفن كوت من جامعة برنستون، استهدفا من خلاله الوصول إلى إطار نظري جديد لفرض الضرائب في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في عام 2007م، وتم نشره في مجلة الضرائب الدولية، وقد قاموا بوضع مجموعة من التوصيات اللازمة لتطبيقها، من أهمها إصدار مجموعة من التشريعات المساندة وكذلك اتخاذ إجراءات إدارية على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية واللمملكة المتحدة .
3. Victoria Heard , The Philosophy Of Tax .3 2008م .
هذا البحث قامت به فيكتوريا هيرد بناءً على طلب من مؤسسة KPMG’s Tax Business School® in the UK عام 2008م، وذلك للمحاولة للوصول إلى أساس نظري لفرض الضرائب في المملكة المتحدة، وقد توصلت الباحثة إلى مجموعة من التوصيات من أهمها فرض الضرائب على أساس تنافسي مع دول الجوار، وتعديل التشريعات بطريقة تؤدي إلى إظهار نفقات الدولة المبنية على تلك الضرائب التي تم تحصيلها، وكذلك سد الثغرات في القانون الضريبي المؤدية إلى التهرب الضريبي .