أصول التربية

مقدمة

من أين تستمد التربية أصولها؟ وكيف؟ وأين يسهم كل أصل في بناء التربية؟ ثم كيف يعمل كل أصل في تشكيل مكون من مكونات التربية، وصياغته في إطار التربية ككل، في تنـاغم وانسجام، وبصورة يعكس أصله الذي أتى منه؟ ولماذا تستمر علاقة التفاعل بين التربية وتلك الأصول، تأثيراً وتأثراً؟ وإذا هيمن أو قوى تأثير أصل أو مجموعة أصول على التربية لأسباب ما، فهل تبرز تلك الهيمنة أو ذلك التأثير في توجيه بقية الأصول التربوية؟ وإعادة تحديد مسار التربية؟ ثم ما علاقة ناتج التربية أو أهدافها بتلك الأصول؟
هذه استفسارات وتساؤلات يسعى هذا الكتاب إلى إجلاء النظر حولها وتعميق بصر وبصيرة القائمين على التربية ونظامها التعليمي، وإعطاء خلفية نظرية وتطبيقية للمهتمين بالتربية والمتعاملين معها، بل وحتى الأفراد العاديين.
قيل منذ فجر التاريخ أن التربية قوة، ولا غرو في ذلك، فهي عدة المجتمع وسلاحه ضد العلل والأدواء.. وهي عين المجتمع الذي يرى بها ماضيه وحاضره ومستقبله، وهي عقله الذي يفكر به.. بها يرى نفسه، وعن طريقها يبلغ ما يرغبه أن يكون في أي صورة يريدها، إنها باختصار نظام لحياة المجتمع بكل أبعاد حياته.
فالتربية، إذا كان المجتمع هو الذي أوجدها؛ فإنها تستمد بالضرورة صفاتها وخصائصها ومكونات بنائها تنظيماً وأهدافاً، محتوى وأساليب من المجتمع. وبالتالي فإن غايتها هو المجتمع، لإعادة إنتاجه في أحسن صورة. بمعنى أن التربية تقوم بأخطر الوظائف والأدوار في حياة المجتمع والأمة، من أجل استمرار ثقافة المجتمع، حفظاً وتجديداً، من خلال ما تقوم به في الفرد والمجتمع والثقافة.
وحتى تقوم التربية بوظائفها وأدوارها تلك.. تستجيب لمجتمعها، وتتناغم معه، فإن عليها بالضرورة أن تأخذ مكوناتها، وتفاصيل عملها، وأوجه مسارها من المجتمع بثقافته، والفرد بطبيعته، بناء على الماضي بخصائصه، والحاضر بمطالبه، والمستقبل بتحدياته، في إطار ما هو إنساني، أكان فردياً أو محلياً أو إقليمياً أو دولياً، وأن تتسلح بكل ما هو ممكن ومتاح لبلوغ غاياتها التي وجدت من أجلها.
والتربية على هذا النحو ميدان تتجمع داخله مقومات المجتمع وأنماط ثقافته، ثم نتائج معارف المجتمع وعلومه، بما فيها التي تأتي من ثقافات أخرى: إقليمية وعالمية، ومن ذلك تتسلح بأفكار وأساليب تمكنها من القيام بوظائفها من أجل تحقيق أهدافها.. وهذا معناه أن التربية ميدان تطبيقي لنظام المجتمع بأفكاره واتجاهاته وقيمه، ثم لعديد من نتائج العلوم، كلهـا تتجمع لتجعل للتربية طبيعة وخصائص جديدة، تسعى من خلالها إلى تحقيق أهدافها.. فتجعل منها علماً من حيث تأثير تلك الأصول وفعلها في التربية.
لذلك يصبح ضرورياً تقصي مساهمة كل أصل في صياغة التربية وتشكيلها، ومدى تأثير كل أصل وفعله في توجيه عمليات التربية وأنشطتها، وتعيين ناتجها أو مخرجاتها.
إن كل من يتصدى لأمر التربية وتطويرها يجب أن تكون لديه خلفية واسعـة عن الأصول التي تكون التربية، وتؤثر في كل ناحية وزاوية منها، إذ لا يمكن تطوير التربية أو تسيير شؤونها بكفاية وفاعلية في اتجاه غاياتها المرغوبة، دون معرفتنا بتلك الأصول، فمن لديه فكرة عن جزء من التربية لن تكتمل وتتضح، إلا إذا كانت لديه معرفة عن كل التربية وأسس تكوينها.
وهذا ما يسعى الكتاب الحالي تفصيله من خلال ثلاثة أبواب، يتضمن الباب الأول الأصول التي تستمدها التربية من المجتمع من خلال فصلين، يتناول الفصل الأول التربية والمجتمع. ويتناول الفصل الثاني الأصول التي مصدرها المجتمع، ونواحي فعلها في التربية، ظاهراً ومستتراً.
بينما يتضمن الباب الثاني الأصول التي تستمدها التربية من العلوم، وذلك من خلال تسعة فصول، هي الأصول التاريخية، والدينية، والنفسية، والفلسفية، والسياسية والاجتماعية، والثقافية والإدارية، والاقتصادية، وبيان تأثير كل أصل منها في التربية فكراً وتطبيقاً.
على حين يتضمن الباب الثالث الأصول التي تكونت في التربية، كنتيجة للأصول السابقة وتفاعلها مع مكونات التربية، وذلك من خلال فصلين اثنين، تناولا: أصول التربية اللامدرسية والمدرسية، ثم الأصول التعليمية للتربية.
ولعل ما يجب الإشارة إليه، أنه ليس من هدف الكتاب حصر كل شاردة وواردة لإسهامات كل أصل في التربية، فهذا فوق طاقة البشر، وحسبنا التركيز على أبرز إسهامات كل أصل، ونواحي فعلها في التربية، مع الشرح والإفاضة لنواحي مهمة في تشكيل التربية، كلما دعت الحاجة لذلك.
وفي الأخير أتمنى من الله العلي القدير أن أكون قد وفقت في معالجة موضوع هو من أخطر مواضيع التربية، وأكثرها حاجة للتأمل والتفكير العميق، كما أرى ويرى غيري كثيرون.

والله من وراء القصد،،،
المؤلف
د. أحمد علي الحاج محمد