المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره وخلق الأشياء ناطقةً بحمده وشكره، والصلاة والسلام على نبيِّه محمد المُشْتقّ إسمُهُ من إسمِهِ المحمودِ، وعلى آله الطاهرين أولي المكارمِ والجودِ.
وبعد..
فإنه لا يخفى على كلّ ذي لُبٍّ ما للأدب العربي ولاسيما الشعر من أهميةٍ وقدرٍ عاليين فقد كان الشعر سفر الأمة الخالد الذي حمل في طيّاته أخلاقها وأمجادها وأيامها وقيمها الرفيعة فكان بحق الوعاء الأمين للسمات العربية الأصلية، ولم تقتصر مهمته على حفظ التراث بل تعداها إلى أن يكون الموئل الأوحد لتربيته الأمة وتعليمها أخلاقها وأمجادها، فقد كان السبيل للتخلق بأخلاق القوم وسماتهم الرفيعة السامية من كرم وشجاعة وحمية… إلى غيرها من الأخلاق التي كان العربي يحرص كل الحرص على أن يتعلمها أو تكون سجيةً وخصلةً من خصاله، فكان بحق “علم قومٍ لم يكن لهم علم أصح منه”.
ولم تكن رغبتي في الأدب العربي بصورةٍ عامة والشعر بصورةٍ خاصة وليدة الدراسة العليا أو حتى الدراسة الأولية وإنما كانت منذ تعلمي أول حرفٍ في تعليمي الابتدائي أو قبلها عندما كانت جدتي لأبي(رحمها الله) تنشدني بعض الأشعار باللهجة العامية الدارجة آنذاك فاستوقفها لاستفهم منها، فتملكتني من حينها رغبةٌ عارمة في أن أتزود من هذا المعين الثر وهذا ما ساعدتني عليه بيئتي الجنوبية التي كانت تتنفس الشعر حبّاً وعشقاً وتتصبر به غذاءً لبساطتها وبساطة عيشها، ولا أخفي أني جربت أن أنظم الشعر وأن أتأدب بأدبه، لكن للدراسة الباع الطويل في صقل هذه الموهبة، وهذا ما عزمتُ عليه في أن ألج قسم اللغة العربية وأن أكون أحد طلابه، وما أنْ صرتُ أحد طلاب هذا القسم حتى رزقني الله نعمة التتلمذ على يد أبرع أساتذة الأدب في وقتها وهو أستاذي وشيخي الجادر (رحمه الله) الذي أخذ بيدي لنرحل في الأدب العربي القديم حتى كشف لي عن أسرارٍ وأسرار، فتملكني العشق الجنوني بهذا الأدب الرفيع وما أن وفقني الله وصرتُ طالباً في الدراسة العليا حتى منّ الله عليّ مرةً أخرى فتتلمذت من جديد على يدي نخبةٍ طيبةٍ من الأساتذة الأفاضل كان من بينهم أستاذي وشيخي المرحوم الجادر –رحمه الله- الذي فتّق لي أبواب المعرفة في الأدب العربي القديم ونقده، وأستاذي الفاضل الدكتور فائز طه عمر الذي تتلمذتُُُ عنده في الدراسة الأولية والدراسة العليا، وأُعجبتُ أيّما أعجاب بطرحهما للدرس وبحثهما في دقائق أموره ونقده، حتى منتني النفس وحدثتني أن أخوض غمار البحث في نقد الشعر العربي القديم، فبدأ المخاض وأيامٌ وليالٍ وقضية اختيار الموضوع بين مدٍ وجزرٍ، وفي كلّ يومٍ يتنامى هذا المدّ وبلغ مداه، فليس الهدف عندي أن أجد موضوعاً أدرسه، وإنما الهدف ماذا سيبقى ليّ منه وبماذا أنفع به العلم والناس، وقديماً قيل:
وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إلاّ سَتَبْقَى
فَلاَ تَكْتُبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيءٍ
كِتَابَتَهُ وَإنْ فُنِيَتْ يَدَاهُ
يَسُرَّكَ فِي الْقِيَامَةِ أنْ تَرَاهُ
وما هي إلا أيامٌ حتى يُشير عليّ أحد أصدقائي المتكرمين بأنْ أدرس النقد الأدبي عند الخلفاء، فتلقفتها منه فكرةً بكراً وسارعت بها إلى أستاذي الدكتور فائز طه عمر الذي أشار عليّ أنْ أذهب إلى شيخي الجادر (رحمه الله) فأيّدني عليها وباركني وحثني على أن أتتبع هذا الأمر حتى يكون عنواناً معتداً بنفسه وموضوعاً يستحق البحث والدراسة ثم بعد ذلك شرعتُ في البحث عن مصادري، وأنْ كان طلاّب البحث يشكون من قلة المصادر وضياعها، فأنا على العكس من ذلك فإنّي أشكو كثرة المصادر وتشعبها، فما من كتابٍ تاريخيٍّ أو سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ أو أدبيٍّ قديمٌ كتبه القدامى أو حديثٌ كتبه المحدثون تناول تلك المرحلة من تاريخ الأمة الإسلامية ألا وكانت فيه طرفٌٌ وأحاديثٌٌٌٌ ورواياتٌ عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الخلفاء مع الشعراء، وهذا ما جعلني أقف وقفةً طويلةً وطويلة جداً أحاول فيها التوفيق بين هذه الروايات وهذه التفسيرات التي اختلفت باختلاف مشارب القوم وثقافاتهم الأدبية أو التاريخية أو السياسية وحتى المذهبية، وكان رائدي في ذلك المنهج العلمي الرصين الذي جعلني أعيد النظر في كل قراءةٍ أقرأها لروايةٍ ما ولأكثر من مرة أقلبها على أكثر من وجه حتى أخرج بالوجه الصائب من هذه الرواية أو الخبر.
ولا يخفى على أهل العلم من أساتذةٍ وطلاب، ودارسين ومدرسين ما لهذه السنين العجاف التي مرت على العراق فأقعدت بواقعه الثقافي والعلمي على السواء، فأغلقت المكتبات الحكومية والعامة وحتى المكتبات الخاصة، بعد أنّ عمت الفوضى أرض الوطن، فأقعدتني كغيري من طلاب العلم مدة من الزمن لا استطيع الوصول إلى مصادر دراستي، لولا مكتبةٌ قديمةٌ لم تسلم من جور الزمان والإنسان معاً، فتزودت منها ببعض المصادر المهمة وبذلك فإني قد اعتمدتُ في بعض مصادري على أكثر من طبعة ولأكثر من محقق كما هو الحال في كتاب الأغاني لأبي فرج الاصفهاني الذي اعتمدت فيه على طبعة ساسي وعلى طبعة دار الثقافة وعلى طبعة بيروت، وكذلك الحال في الشعر والشعراء لابن قتيبة فقد اعتمدت طبعة أحمد محمد شاكر وطبعة بيروت، والذي ألجأني إلى هذه الحالة هو تردي الحالة الأمنية وتوافر طبعات معينة في أماكن معينة، لذلك تجد تعدد الطبعات في بداية بحثي، ولكن سرعان ما منّ الله على الأمة ببعض الأمان الذي سهل عليّ وصول المكتبات، كما سهل عليها أن تفتح أبوابها من جديد، وبها توحّدت مصادري مرةً أخرى.
